عنوان الفتوى : الحكمة من جهاد المؤمنين للكافرين
إذا كان الله يستطيع أن يدافع عن دينه، فلماذا ندافع نحن عنه؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فصحيح أن الله تعالى قادر على نصرة دينه وعباده الصالحين، بسبب ظاهر أو بغيره، ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن يجري ذلك على وفق الغاية من خلقه للخلق، ألا وهي حكمة الابتلاء والامتحان؛ ليميز الخبيث من الطيب، وهذا قد جاء صريحا في القرآن في عدة مواضع، منها قوله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179] قال السعدي في تفسيره: أي: ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط وعدم التمييز حتى يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب. ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم. فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين: مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين، ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب، وليظهر عدله وفضله، وحكمته لخلقه. اهـ.
ومنها قوله سبحانه: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 4] قال ابن كثير: أي: هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده، {ولكن ليبلو بعضكم ببعض} أي: ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم، ويبلو أخباركم. كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي "آل عمران" و "براءة" في قوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران: 142] . وقال في سورة براءة: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} [التوبة: 14، 15]. اهـ.
وقال السعدي: {ذَلِكَ} الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم، وانتصار بعضهم على بعض {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا، حتى يبيد المسلمون خضراءهم. {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ليقوم سوق الجهاد، ويتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة، فإنه إيمان ضعيف جدا، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا. اهـ.
وجاء في التفسير الوسيط: {لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي: لانتقم منهم فأهلكهم بغير الحرب كالزلزلة. {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: أمركم بالحرب ليختبر بعضكم ببعض، فيمتحن المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين، ويمتحن الكافرين بالمؤمنين تمحيقًا لهؤلاء الكافرين ... {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} بغير قتال، بأن يهلكهم بخسف ونحوه كرجفة وغرق وريح صرصر عاتية، وقال ابن عباس: ولو يشاء لأهلكهم بجند من الملائكة. {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: ولكن أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم، فينالوا الثواب العظيم، ويُخلَّد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الكبير، وليبلو الكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم - عز وجل - ببعض انتقامه، فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه. اهـ.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال، لقدرته على إهلاكهم بما شاء، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكه إياهم، ولكنه شرع الجهاد لحكم، منها: اختبار الصادق في إيمانه، وغير الصادق فيه. ومنها: تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله، كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه، كقوله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ {محمد:4}، وكقوله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ..{آل عمران:179}، وقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {التوبة:16}، وقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {آل عمران:142}، وقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ {محمد:31}، إلى غير ذلك من الآيات. وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور، وتسهيل الشهادة في سبيله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {آل عمران:140 ، 141}. اهـ.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: فهذه ثلاثة أعداء –يعني: العدو الخارجي، والنفس الأمارة بالسوء، والشيطان- أُمِر العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بلي بمحاربتها في هذه الدار، وسلطت عليه امتحانا من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مددا وعدة وأعوانا وسلاحا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددا وعدة وأعوانا وسلاحا، وبلا أحد الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم، ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله، ممن يتولى الشيطان وحزبه، كما قال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا} [الفرقان: 20] وقال تعالى: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} [محمد: 4] وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد: 31]. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 117638، 117417.
والله أعلم.