عنوان الفتوى : مناقشة الزعم بخروج قطرات من كل الرجال بعد التبول
طوال عمري أستنجي بالماء بصورة طبيعية دون مشكلة، وأنا في أواخر الثلاثينيات من عمري اكتشفتُ بالصدفة أن ثمة نقاط بول قليلة تخرج مني بعد التبول بفترة، ولم أكن أنتبه لهذا الأمر طوال حياتي؛ لأنني كنتُ أستنجي بالماء، وبالتالي أيُّ نقاط قليلة تخرج بعد التبول لن تظهر وسط ماء الاستنجاء.قررتُ أن أراقب ما يحدث بعد التبول، ووجدتُ بالفعل أن ثمة نقاط قليلة تخرج بعد التبول، وليس لها وقت محدد، فهي قد تخرج بعد نصف ساعة أو حتى ساعة، أو على مرات متفرقة، وهو أمر يقيني يحدث بعد كل مرة تبول، هذا الأمر شككني في طهارتي السابقة، لأنني لم أكن أنتبه لهذا الأمر.أجريتُ الفحوصات الطبية، وكانت جميعها سليمة، ولم تظهر لديَّ أي مشكلة طبية.حاولتُ إيجاد حل، حتى توصلتُ إلى أنني عندما أعصر ذكري، وأضغط برقة على رأس الذكر لمدة عشر دقائق تقريبًا، تخرج القطرات العالقة في مجرى البول، ثم يتوقف خروج البول، ولا تخرج أيُّ نقاط بول بعد ذلك، وهذا الأمر أراحني كثيرًا، وجعلني متيقنًا من طهارتي.المهم: كنتُ قد ذهبتُ إلى أحد أطباء المسالك البولية، وأخبرني أن جميع الرجال يخرج منهم قطرات قليلة بعد التبول، ولكنهم لا ينتبهون لذلك. فسألتُ الدكتور «وائل أبو هندي»، وهو طبيب نفسي، وأكد ليَّ أنه من الناحية الطبية، غالبية الرجال، إن لم يكن جميعهم، يخرج منهم قطرات قليلة بعد التبول. وأرسلتُ أيضًا إلى قسم الاستشارات، على موقعكم، الاستشارة (رقم 2367222) وردَّ عليَّ الدكتور «خالد محمد أحمد»، وهو طبيب مسالك بولية، وأكد أيضًا أن هذا الأمر يحدث لكثير من الرجال، وطالب علماء الدين بالرد على هذه المسألة لسد أبواب الشيطان والوسواس والقلق علينا أجمعين. إذًا فنحن أمام ظاهرة طبية، قد يغفل عنها الكثيرون، رغم أهميتها، وفي ظني أن الأمر يحتاج إلى اهتمام أكبر من جانب علماء الدين، بعد التشاور مع الأطباء المختصين في هذا الأمر، للخروج بفتوى واضحة تريحنا أجمعين.وسؤالي مكوَّن من شقين: أولاً، ماذا أفعل في صلاة الجماعة، فبعد معرفتي بهذه الأمور، أصبحتُ أخشى الصلاة في جماعة، فلعل الإمام يخرج منه قطرات بول ولا ينتبه إليها،لأن هذا الأمر بالفعل لا ينتبه إليه الكثيرون، فهل أصلي منفردًا احتياطًا للعبادة، ولا سيما أن هناك من يقول إن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام؟! ثانيًا، كيف لا يزال بعض العلماء يعتمدون، في فتاواهم، حتى الآن على كلام ابن تيمية بأن: الذَكَر كالضرع، إن تركته قر، وإن حلبته در، رغم أن ابن تيمية نفسه ليس بطبيب، ولم تتح له في وقته الأدوات العلمية الموجودة لدينا في وقتنا الحاضر، في حين أنه يمكن ببساطة اللجوء إلى أيِّ طبيب مسالك بولية، ممن لديهم العلم والدراية بالتركيب التشريحي لجسم الإنسان وآلية التبول، للتثبت والتحقق من هذا الأمر. بل إنني أرى أن الإفتاء بنضح الماء بعد التبول، ما هو إلا خداع للنفس، فكيف للمرء أن يعلم أنه يخرج منه قطرات بول بعد التبول، ويقوم بنضح الماء ليوهم نفسه أن هذا هو ماء الاستنجاء. اعذروني فقد قرأتُ بعض الفتاوى يقول فيها السائل صراحةً إنه يرى قطرات بعد التبول، ويكون رد المفتي: لا يلزمك التحقق من وجود قطرات بول، وينصحه بالنضح. فالنضح قد يكون مفيدًا لمن لديه وساوس في هذه المسألة، أما غير ذلك فلا أراه سوى خداع للذات. أرجو من حضراتكم أن تتقبلوا كلامي هذا بصدر رحب، فأنا لا أريد سوى الخير ليَّ ولكم ولإخواني المسلمين، في أمر يمس حياتنا أجمعين، وقد يغفل عنه الكثيرون. شكرًا مقدمًا لحضراتكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فشكر الله لك حرصك على الخير ورغبتك فيه، بيد أن هذا الخير أوقعك في نوع من التنطع، وما ذكرته عن الأطباء المذكورين غير مسلم البتة، وعامة الناس يعرفون من أنفسهم أنهم لا يقع لهم هذا الشيء وهم موقنون جازمون به، ولم يزل المسلمون عبر العصور يستنجون ويتوضؤون بصورة عادية طبيعية، أفترى أن كل المسلمين عبر العصور كانوا غافلين عن هذا الأمر؟! هذا ما لا يستقيم في عقل بحال، وإلا فإن شعور بعض الناس بخروج تلك القطرات وتحققهم من ذلك دال دلالة قطعية على أن غيرهم ليس كذلك، إذ لو كان معظم الناس كما تدعي كذلك لشعروا به هم أيضا، فمثل هذا الطرح الذي تفضلت به طرح مرفوض عندنا ولا نشك في خطئه، والانسياق وراء هذه الظنون والتخرصات يفتح باب الوساوس على مصراعيه والشرع قد أتى بغلقه، وسد كل سبيل مفض إليه.
وإذا علمت مخالفتنا لك في أصل الفكرة التي طرحتها تبين لك أن جوابنا على السائلين بأنه لا يلزمهم البحث ولا التفتيش إنما هو عمل بالأصل ووفقا للقاعدة الكلية المقررة في الشريعة وهي أن اليقين لا يزول بالشك، وأما من تيقن يقينا جازما يستطيع أن يحلف عليه بخروج تلك القطرات فهو الذي يلزمه إعادة الاستنجاء، ثم إن كان خروجها مستمرا فحكمه حكم صاحب السلس -كما هو معلوم- وتبين لك كذلك أن النضح لدفع الوسوسة كما نطقت به السنة وقال به أهل العلم أمر حسن مندوب إليه، وفيه سد لطريق الوساوس، وليس كما توهمت من كونه خداعا للنفس، فإن اليقين لا يزيله إلا يقين مثله، وتبين لك كذلك خطأ ما تفكر فيه من ترك الجماعة ونحو ذلك، فكل هذه أفكار نابعة من محض الوسوسة، أفتراك أتقى لله وأعبد له وأحرص على صحة صلاتك من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام عبر العصور؟ هذا ما لا نظنك تقول به.
وأما ما يتعلق بكلام ابن تيمية فإننا نقول: إن العصر والنتر ونحوه مما ذكر بعض الفقهاء أنه مستحب إنما يشرع في حق من علم أن البول لا ينقطع إلا بذلك، جاء في الروض مع حاشيته لابن قاسم: ويستحب نتره ثلاثا، أي نتر ذكره ثلاثا ليستخرج بقية البول منه؛ لحديث إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثا، وضعفه شيخ الإسلام وغيره، لأنه من رواية عيسى بن يزداد بن فسأة وقال النووي: اتفقوا على ضعفه، وقال ابن معين: لا يعرف هو ولا أبوه، وذكر جماعة من الأصحاب وغيرهم، ويتنحنح زاد بعضهم، ويمشي خطوات قال الشيخ: وكل ذلك بدعة، وكذا تفقده الفيئة بعد الفيئة، ولأنه من الوسواس، ولو احتاج إليه لأنه وسواس. وقال في موضع: لكن إن احتاج للنتر فعله كأن يكون إن لم يفعله أصابه سلس. اهـ
وينبغي لمن استنجى بالماء أن ينضح فرجه وسراويله قطعا للوسواس، وللمادة فإن تأثير الماء البارد في قطعها معلوم، وروى أبو داود والترمذي وغيرهما من طرق أمره وفعله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح مسلم في خصال الفطرة الانتضاح، وقال أحمد فيمن ظن خروج شيء: لا تلتفت إليه حتى تيقن، والهَ عنه فإنه من الشيطان، وإنه يذهب إن شاء الله. وسئل سليمان بن يسار عن البلل يجده قال: انضح من تحت ثوبك بالماء، واله عنه. وقال القاسم بن محمد: (إذا استبرأت وفرغت فارشش بالماء وقل: هو الماء) ، وينبغي أن لا يتبع الأوهام، فإنه يؤدي إلى تمكن الوسوسة من القلب، وهي تضر بالدين. انتهى.
وبهذا البيان الواضح نرجو أن يكون قد زال عنك اللبس والإشكال، فلا تحكم بخروج شيء منك إلا بيقين جازم لأن الأصل عدم ذلك؛ كما هو معلوم محسوس.
والله أعلم.