أرشيف المقالات

دعوة المعاندين ومحاورتهم

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
دعوة المعاندين ومحاورتهم
 
قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 56 - 62].
 
المناسبة بين هذا المقطع وسابقه:
"لما أفضى الكلام بأفانين انتقالاته إلى التعجيب من استمرارهم على أن يعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم، أعقب بما يومئ إلى استمرارهم على تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بنسبة ما بلغه إليهم إلى الإفك، وأنه أساطير الأولين، وأنه سحر، فأبطلت دعاويهم كلها بوصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مرسل من الله، وقصره على صفتي التبشير والنذارة.
وهذا الكلام الوارد في الرد عليهم جامع بين إبطال إنكارهم لرسالته وبين تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه ليس بمضل ولكنه مبشر ونذير، وفيه تعريض بأن لا يحزن لتكذيبهم إياه.
ثم أمره بأن يخاطبهم بأنه غير طامع من دعوتهم أن يعتز باتباعهم إياه.."[1].
 
المعنى الإجمالي للمقطع:
إن أمر الكافر لعجب! كيف تطاوعه نفسه على الاستمرار على الباطل بعد أن أقيمت البراهين القاطعة والدلائل الدامغة والبينات المحسوسة على وحدانية الله جلَّ وعلا، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين، من خلال تلك الجولات في الكون وأفلاكه، والرياح وتصريفها، والمياه وينابيعها، والبحار وأمواجها، ومن خلال النفس الإنسانية ووشائجها، وقراباتها ونسبها مع كل تلك البيِّنات التي يلمسها فيما حوله وفي نفسه، ينكب على عبادة الوثن الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً، ويكذب الرسول الذي جاء بالحق والصدق ويعلن مقاطعته وعداوته.
وكم هو شاق وصعب على النفس الكريمة الحريصة على إيصال الخير للبشر جميعاً أن تقابل بمثل هذا الصد والمشاقة.
لذلك تأتي الآيات المرة تلو الأخرى تسرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من القوم، وتسليه عن الجفاء والعناد الذي يقابل به، فجاءت آيات هذا المقطع لتذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مهمته التبليغ ليس إلا، والتبليغ بشقيه البشارة والإنذار هما المطلوبان منه، أما هداية القوم وحملهم على الإيمان، فهذا تحت مشيئة الله خالقهم وليس ضمن مهمات الرسول.

وفي القرآن المكي والمدني يتكرر ذلك كثيراً، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54].
﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48].
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56].
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6].
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الإسراء: 105].
ولكن لا يعني ذلك أن يتركهم بعد التبليغ والبيان، بل لا بد من التكرار والمجاهدة معهم كما فعل نوح عليه السلام مع قومه ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ [نوح: 5 - 9].
وهنا بعد بيان قصر مهمة الرسول على البشارة والإنذار، عطف عليه الأمر بأن يذكّرهم أنه لا يبتغي بذلك منهم أجراً ولا مالاً ولا جاهاً ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 57][2].

ولما كان الاستمرار في دعوة القوم يحتاج إلى قوة دافعة وعزم قوي من صاحبه، جاء الأمر بأن يتوكل على الحي الذي لا يموت، الغني عن كل شيء، الركن القوي الذي لا يضام من توكل عليه حق التوكل ولا يذل من والاه.
والعروة الوثقى التي تمتن الصلة بالقوي العزيز، تسبيحه وتمجيده آناء الليل وأطراف النهار، وتنزيهه عما ألصق به الجاهلون السادرون في ضلالهم من صفات النقص والعجز، فإنه خبير بما ينسبون إليه، سميع بما يقولون عنه، عليم بدخائل نفوسهم العاتية وعقولهم الزائغة.
ولا شك أن في هذه اللفتة والتنبيه لرسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مقولات القوم والاستمرار في دعوته، إشارة إلى أنه المسؤول عن إعطاء الأجر، فلن تذهب جهود رسوله صلى الله عليه وسلم سدى في دعوة القوم، بل ربه المتولي لشؤونه هو المتكفل بأجره[3].
إن في جملة ما ينزه عنه الحي القيوم إضاعته من يتوكل عليه أو إنقاص أجره، وخذلانه من يستنصره وعجزه عن عقوبة من يكفر به ويكذب رسوله.

إن من مظاهر كمال قدرته وعظمته تفرده بخلق السماوات والأرض، ووضع نظامها وبث المخلوقات فيها ووضع أقواتها وطاقاتها، وخلق السنن التي تسير بموجبها، كل ذلك في ستة أيام، فكيف يكفر بهذا الخالق العظيم، وكيف لا يركن على عظيم جنابه، وكيف يجحد الجاحدون وعده ووعيده ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9 - 12].

من مظاهر لطفه ورحمته بمخلوقاته أن يعلمهم التؤدة والتأني في أحوالهم ومعايشهم، فهو القادر الذي يقول للشيء كن فيكون، لكنه أجرى كونه على سنن مطردة وبنى مسببات على أسباب ظاهرة أو خفية، خلقها في ستة أيام[4]، ثم استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، ونؤمن بأسماء الله وصفاته على مراده وبما يليق بذاته: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].

إن هؤلاء الجاهلين المعاندين لا يتركون حماقاتهم مهما أقيمت لهم الحجج والبراهين، ومهما أبرزت لهم الدلائل والبيّنات، ومهما بينت لهم صفات الكمال للخالق جلَّ جلاله، فإذا طلبت منهم بعد كل ذلك، أن يخضعوا للرحمن قالوا: وما الرحمن؟! مستغربين متجاهلين، وأنكروا هذا الطلب، وأبوا الاستجابة، ولجُّوا في طغيانهم وعنادهم يعمهون، بل ذهبوا إلى مزيد من النفرة والابتعاد واستهزؤا بمن دعاهم وغالطوا قائلين: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن.
وما أدركوا أن لله الأسماء الحسنى.
﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110].
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ [الرعد: 30].

ومجيء صفة (الرحمن) في هذا السياق بعد ذكر خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، له دلالته الرائعة لبيان سعة رحمته بمخلوقاته، بخلاف ملوك الأرض الجبابرة، فإن الإنسان إذا اتسع ملكه وقوي شأنه أخذه الطغيان والجبروت على الرعية.
إن الرحمن قد سبقت رحمته غضبه، فهو يحسن إلى عباده في الدنيا كافرهم ومؤمنهم، فلا يقطع عنهم الرزق والرعاية، وأرجأ حسابهم إلى الدار الآخرة.
وسخّر للجميع السنن الكونية ووضع فيها النواميس التي تخدم من توصل إليها كما بينها في قوله تعالى:
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 18 - 21].
ومن مظاهر رحمته المتنامية بعباده ورعايته لمصالحهم، تسخير ما يقيم به شؤون حياتهم ومعيشتهم حيث جعل في السماء بروجاً[5].
وخلق فيها السراج الوهاج والقمر المنير، فتولّد من خلق الشمس ووضع نظام المجموعة الشمسية وفق تلك البروج، الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر، فهل من متدبر لدقائق صنع الله تعالى في هذه البروج والليل والنهار.
فإن فيها الدلائل الباهرة على عظيم قدرة الخالق جلّ جلاله وواسع رحمته بعباده مما يستوجب شكر المنعم على إنعامه ولطفه بعباده.
 
فوائد:
الأولى: عدد البروج اثنا عشر برجاً جمعها بعضهم بقول:

حمل الثور جوزة السرطان
ورعى الليث سنبل الميزان

ورمى عقرب بقوس لجدي
نزح الدلو بركة الحيتان

وتنقسم البروج إلى قسمين شمالية وجنوبية.
فالشمالية تخص فصلي الربيع والصيف:
التوأمان: الحمل والثور والجوزاء..
ربيعية.
العذارء: السرطان والأسد والسنبلة..
صيفية.
والجنوبية تخص فصلي الخريف والشتاء.
الرامي: الميزان والعقرب والقوس..
خريفية.
السمكتان: الجدي والدلو والحوت..
شتوية.
ولحلول الشمس في كلّ من الاثني عشر برجاً، يختلف الزمان حرارة وبرودة والليل والنهار طولاً وقصراً، وفي إدراك الزروع ونضج الثمار ونحو ذلك، ولعل ذلك هو وجه البركة في جعلها[6].

الثانية: في الآية الكريمة إيماء إلى أن اعتبار التقسيم في البروج كان عن وحي من الله جلّ جلاله، والمشهور عند علماء الفلك أن أوّل من اعتبر البروج وقسّمها هو (هرمس) ويقال: إنه إدريس عليه السلام.

الثالثة: يأتي وصف الشمس في القرآن الكريم بالسراج، كما في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ [نوح: 16].
وقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾ [النبأ: 13].
والضياء، كما في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ [يونس: 5].
بينما يأتي وصف القمر[7] بالنور والمنير، ويقول أهل الاختصاص في التفريق بين الشمس والقمر: إن نور الشمس ذاتي يولد إضاءة وحرارة كالسراج، أما نور القمر فانعكاس لما يقع على سطحه من ضياء الشمس، فيعكس النور لا الحرارة.

الرابعة: الاستدلال هنا - في المقطع العاشر - بهذه المخلوقات (الشمس والقمر والليل والنهار) مغاير للاستدلال المتقدم في المقطع التاسع، حيث ذكر هناك أثر الليل والنهار في حياة الناس ومعايشهم، بينما ذكرت هنا للاستدلال بهما على عظمة الخالق ودقة صنعه في مخلوقاته الهائلة.
 
مناسبة المقطع العاشر لمحور السورة:
كانت الجولات الكثيرة في المقطع التاسع في الأجرام السماوية ودقة صنعها ووضع نظامها وفي النفس الإنسانية بداياتها وأعراضها ونهاياتها، فجاء المقطع العاشر لبيان أن الآيات والبراهين أضحت جليلة لكل ذي عقل وبصيرة، ولم يبق شبهة تستحق الوقوف عندها عند كل ذي إدراك، فإذا بقي الناس على عنادهم مع كل ذلك، فلست المقصّر المؤاخذ يا محمد فإن مهمتك مقصورة على البشارة والإنذار والبيان للناس، ولست المسؤول عن هدايتهم، فهؤلاء القوم اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، ويظنون أنك تريد بهذا حطام الدنيا وجاهها، وهذا مبلغ علمهم من حياتهم الدنيا، وتوكل في أداء رسالتك على الحي الذي لا يموت فلن يضيع لك أجراً ولن يخذلك في مسعاك.
فهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وهو واضع سنن هذا الكون فتوجه إلى شكره وذكره.

إن الصلة بين هذا المقطع وبين سابقه واضحة جداً، كما أن الصلة بين المقطع ومحور السورة جلية، فإن المحور يدور حول تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال معجزة الفرقان، ومهمة الرسول هي تبليغهم الرسالة (القرآن الكريم) ومجادلتهم به، ومجالدتهم عليه ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52].
ولا يدخل اليأس إلى قلبه في عنادهم واستهزائهم بما جاءهم به من الحق، فإن الله مولاه وناصره ولن يخذله ولن يضيع له أجراً.
إنَّ هذا المقطع رافد كبير من الروافد التي تصب في مجرى السورة وتيارها لإبراز شأن الرسالة وصدق الرسول في دعوته وصبره على الاستمرار في أداء مهمته.

[1] التحرير والتنوير، لابن عاشور: 19/ 57.


[2] اختلف المفسرون في عودة الضمير في (عليه) قالوا: يعود على التبليغ المفهوم من السياق، وقيل: على المذكور من التبشير والإنذار، وقيل: على القرآن، ولعله الأولى تناسقاً مع (صرفناه) (وجاهدهم به) وانسجاماً مع محور السورة.
كما اختلف المفسرون في الاستثناء (إلا من شاء..) فقال بعضهم: إنه منقطع، بمعنى: ولكن من أراد أن ينفق ويتصدق في سبيل الله فله ذلك، وذهب بعضهم إلى أن الاستثناء متصل على أن يكون من باب قول القائل:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم ♦♦♦ يعاب بنسيان الأحبة والوطن
وقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ♦♦♦ بهن فلول من قراع الكتائب
وفي ذلك قطع كلي لشائبة الطمع في العوض منهم مقابل دعوتهم إلى الهداية وإظهار لغاية الشفقة عليهم حيث جعل ذلك - مع كون نفعه عائداً إليهم عائداً إليه صلى الله عليه وسلم، مثل قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال: ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه).
وقول المعلم المؤدب لتلميذه: "أجري على تعليمك هذا أن تنجح بتفوق على أقرانك وتكون سعيداً في حياتك".

وقيل المعنى: ما أسألكم عليه أجراً إلا أجر من آمن، أي الأجر الحاصل لي من إيمانه، فإن الدال على الخير كفاعله.

انظر الأقوال السابقة في روح المعاني، للألوسي: 19/ 37؛ والتحرير والتنوير، لابن عاشور: 19/ 57.

[3] يقول ابن عاشور: عدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين (الحي الذي لا يموت) لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم، فيفيد ذلك معنى التوكل في الكون عليه، فالتعريف في (الحي) للكامل، أي الكامل في حياته لأنها واجبة باقية مستمرة، وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلاف أثرها بالذهول كالنوم ونحوه، فإنه من جنس الموت، وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء.
التحرير والتنوير: 19/ 59.


[4] اختلف المفسرون في المراد بالأيام الستة: فمنهم من قال هي كأيامنا، بدأ الخلق يوم السبت وانتهى منه في آخر ساعة من يوم الجمعة، ويؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيه الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل": 2/ 327.
• ومنهم من قال: المراد بها مقدار ستة أيام من أيامنا المعهودة من طلوع الشمس إلى غروبها، لأن الأرض لم تخلق بعد والنظام الشمسي لم يكن، فلا تعرف الأيام الناتجة عن دوران الأرض حول نفسها.

• وذهب آخرون: إلى أن المراد بها ست دورات فلكية أو كونية، الله أعلم بمقدارها، فاليوم نسبي للكواكب والنجوم تطول أو تقصر عن يوم الأرض، وقد أطلق القرآن الكريم اسم اليوم على ألف سنة، كما في قوله تعالى: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [السجدة: 5].
وأطلق على خمسين ألف سنة، كما في قوله تعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4].

[5] البروج في اللغة: القصور، كما في قوله تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].
وقيل: القصور فيها الحرس.
وقيل: بروج النجوم، وسميت بذلك من التبرج وهو الظهور.


[6] انظر روح المعاني، للألوسي: 19/ 40.
بتصرف واختصار.


[7] القمر في أول الشهر يسمى هلالاً، وفي وسطه بدراً، ويطلق القمر على القمر بعد الليلة الثالثة إلى آخر الشهر.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢