الفلسفة الشرقية
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 16 -
سامكهيا:
عاش الحكيم (كابيلا) مؤسس هذا المذهب في القرن السادس قبل المسيح كما يظن أكثر الباحثين المدققين. وقد نشأ هذا الظن عندهم من أن أقدم النصوص التي تحدثت عنه وعن مذهبه ترجع إلى القرن الخامس قبل المسيح، وأنه قد عثر في هذا المذهب وفي المذهب البوذي على تأثرات قوية متبادلة بين المذهبين بالتساوي مما يدل على أنهما متعاصران تقريباً لا سيما إذا كان بعض تلك النقط المتشابهة واضح الأصلية في أحدهما والحداثة في الثاني، والبعض الآخر على العكس من ذلك تماماً. سمي هذا المذهب (سامكهيا) لقوله بالتعدد الذي لا يتناهى في النفوس، وهو على الأصح مذهب إلحادي لا يقول بإله مسيطر متصرف في الكون، وهذه إحدى النقط التي يلتقي فيها مع البوذية التي صورتها لنا نصوص العصر الذي تلا عصر (بوذا) وبعبارة أدق: لعلها إحدى النقط التي تأثرت فيها البوذية بعد موت زعيمها بمذهب (سامكهيا) الإلحادي الذي لا يشك باحث في أن الإلحاد متأصل فيه. يرى صاحب هذا المذهب أنه لا يوجد للكون إله قدير منفرد بالتصرف فيه، وإنما يرى أن هناك روحا عاماً أو عالماً من الأرواح غير محدود ولا متناه، متشابه الوحدات، وأن هذه الوحدات بتكاتفها مع المادة هي التي تحدث في الكون هذه الآثار وتلك التغيرات على النحو الذي يفصله فيما بعد، وهو يرى كذلك وجود عالمين هما في الحقيقة والأزلية والأبدية سواء.
وهما: النفس، وتسمى بالهندية: (بوروشا) والمادة، وتسمى: (براكربيتي).
وهذان العالمان لا يتفقان في أي شيء آخر عدا الحقيقة والأزلية والأبدية.
ومع ذلك، فان بينهما صلة قوية، لأن مجاورة النفس للمادة هي التي تكسبها الحركة التي هي منشأ كل النتائج الصادرة عنها، ولكن النفس وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئاً وإن كانت حية مشتملة بالقوة على جميع عناصر القدرة التأثيرية، وهي مبصرة ولكنها عاجزة على عكس المادة العمياء المشتملة على قدرة كامنة يستحيل بروزها من غير اتصالها بالنفس، وهم لهذا يشبهون اتحادها باتصال مقعد وأعمى التقيا في الصحراء، فاتفقا على تعاون عملي بينهما يضمن لهما النجاة، وهو أن يحمل الأعمى المقعد على كتفيه، ليمكنه من السير مقابل أن يدله المقعد بوساطة بصره على الطريق الذي لم يكن في مكنته أن يعرفه لولا معاونة رفيقه، وقد وصلا معاً إلى شاطئ النجاة بفضل هذا التعاون العظيم.
وهكذا شأن النفس مع المادة هيأ لهما اتحادهما إبراز خواصهما التي لم تكن لتوجد بدون هذا الاتحاد. وللمادة ثلاث صفات ملازمة لها، وهي الخيرية والهوى والظلمة، وإن هذه الصفات تظل تتفاعل فيما بينها في عصور مختلفة حتى تصل إلى حالة الاعتدال التي تسوي بينها، فإذا وصلت إلى هذه الحالة تطورت تطوراً آخر جديداً نشأت عنه الطبيعة، وبارتباط النفس والمادة المتطورة والطبيعة الناشئة عن هذا التطور يوجد هذا العالم المشاهد.
غير أن هذه النظرية لم تلبث أن تلاشت وحلت محلها نظرية أخرى على العكس منها تماماً، إذا أصبحت فكرة الارتباط الحقيقي بين النفس والمادة لا وجود لها، وإنما أصبح الرأي السائد هو أن النفس تجتمع مع المادة اجتماعاً مؤقتاً، أساسه الضرورة التي تتطلبها الحياة الدنيوية، ثم لا تلبث هذه الضرورة أن تزول فتتخلص النفس من هذه الصلة المقيدة لها ثم تنطلق إلى عالم الأبدية الأعلى حيث تنام بلا نهاية نوماً عميقاً هادئاً لا تزعجه الرؤى ولا تنغصه الأحلام. ويرى كذلك أن الشر في هذا العالم موجود وجوداً ذاتياً وأنه لا يقدر على محوه إلا بوساطة العمل الصالح والتخلي عن جميع اللذائذ والتأمل في أسرار الكون، وعلى الخصوص بالمعرفة التي هي الغاية المثلى من جميع هذه المحاولات المتقدمة. وهم للحصول على هذا الخلاص المنشود يغالون في التصرف مغالاة شديدة حتى ليجلس الواحد منهم على شاطئ أحد الغدران عدة أعوام طويلة دون أن يغادر مكانه، ويقتات بالأعشاب ويديم التفكر في أسرار الكون، ولا يزال يغالب نفسه حتى ينتزعها نهائياً من دنس المادة، وقد تصل به الحالة أثناء هذا التنسك إلى أن يصير جسمه نصف متحجر وتنبت فيه الحشائش وتلتف عليه الأغصان. ومع ذلك فسوف لا يعم هذا الخلاص جميع النفوس البشرية وإنما سيبقى منها عدد غير متناه ساقطاً في أحابيل الشر مسجوناً في غيابات الأجسام المادية، لأنه مهما اقتطع من اللامتناهي عدد ذهب إلى الخلاص، فان ذلك الاقتطاع لا يؤثر فيه ولا يخرجه عن صفة اللانهائية لا سيما إذا عرف أن الأصل هو الشر أو الانحباس في سجن المادة، وأن التخليص عارض، ولكن أنجح الوسائل إلى هذا التخليص هو معرفة القوى الكونية الخمس والعشرين ودوام التفكير فيها.
ولذلك يقول (بياس ابن براشن): اعرف الخمسة والعشرين بالتفصيل والتحديد والتقسيم معرفة برهان وإيقان، لا دراسة باللسان، ثم ألزم أي دين شئت فان عقباك النجاة.
وهذه القوى الخمس والعشرين هي: النفس الكلية والهيولي المجردة، والمادة المتصورة، والطبيعة الغالبة، والعناصر الرئيسية وهي: السماء والريح والنار والماء والأرض، وتسمي (مهابوت) والأمهات التي هي بسائط العناصر، فبسيط السماء (شبد) وهو المسموع وبسيط الريح (سبرس) وهو الملموس.
وبسيط النار (روب) وهو المبصر.
وبسيط الماء (رس) وهو المذوق، وبسيط الأرض (كند) وهو المشموم.
ولكل واحد من هذه البسائط ما نسب إليه وجميع ما نسب إلى ما فوقه.
فللأرض الكيفيات الخمس، والماء ينقص عنها بالشم، والنار تنقص عنها به وبالذوق، والريح بهما وباللون، والسماء بها وباللمس.
ولعلهم في نسبتهم الصوت إلى السماء يقصدون به أن لدوران الكواكب في أفلاكهاتلك اللحون الموسيقية التي زعم (فيثاغورس) أن سماعها يتاح لكل من صفت نفسه ولطف حسه.
والحواس المدركة، وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس والإرادة المصرفة والضروريات الآلية.
واسم الجملة: (تتو) والمعارف مقصورة عليها أما الإنسان فهو عند هذا المذهب معقد تعقيداً يلفت النظر، إذ هو مكون من ثلاث شخصيات مختلفة: الأولى الجسم المادي الذي ينحل ويتفكك بالموت ثم تتلاشى أجزاؤه في أصولها الناشئة عنها من عناصر المادة.
الثانية جسم دقيق شفاف، وهو الذي يعتبر في الحقيقة الجوهر الصحيح للإنسان، وهو الذي يتناسخ ويتقمص الأجسام الأخرى.
الثالثة النفس التي هي الواحد الحق المماثل كل المماثلة لجميع الآحاد الحقة التي هي من عالمه النفساني الغير المتناهي. ويرى هذا المذهب أيضاً أن الحواس الإنسانية لم توجد اتفاقاً ولا عبثاً، وإنما وجدت وفاقاً لعناصر الكون، فكل حاسة من حواس الإنسان يقابلها عنصر من عناصر الطبيعة يصلح لأن تقع عليه هذه الحاسة بالذات كما أشرنا إلى ذلك عند الكلام على الديانة البراهمانية. وليس هذا التعقيد في شخصيات الإنسان مقصوراً على مذهب (سامكهيا) وحده، وإنما هو أسلوب هندي عام اشتركت فيه أكثر مذاهب تلك البلاد.
بل إن غير (سامكهيا) قد يصل بهذه الشخصيات إلى أربع أو سبع أو عشر حسب الظروف والأحوال. يتبع محمد غلاب