عنوان الفتوى : شكوى الحال إلى الله بالعامية
هل يجوز في صلاة القيام أن أناجي ربنا وأنا ساجدة، بصيغة عادية، مثل: "يا رب قد وقع لي كذا وكذا، وكنت أتمنى أن يحصل كذا، وقد تعبت يا رب، وهل يرضيك يا رب كذا؟"؟ قصدي أن أحكي الحال.
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فللمسلم أن يناجيَ ربه، ويدعوَه بما أراد من خيري الدنيا والآخرة، ويشكو إليه حاله، وقد قال نبيُّ اللهِ يعقوبُ عليه السلام: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ {يوسف:86}، وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا عند خروجه من الطائف، شاكيًا إلى ربه ما لاقاه مِنْ أهلها مِنَ التكذيب والإعراض، فقال: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ، فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ. رواه الطبراني.
لكن من المهم أن يتأدب الداعي مع ربه سبحانه وتعالى، ولا يتكلم بما فيه سوء أدب مع الله، قال النفراوي المالكي في الفواكه الدواني في معرض حديثه عن آداب الدعاء: ...وَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ مِمَّا يُعَدُّ إسَاءَةَ أَدَبٍ فِي الْمُخَاطَبَاتِ؛ لِوُجُوبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ .. اهـ.
وليس من الأدب أن يتكلم الداعي في دعائه ومناجاته بما يُشْعِرُ باعتراضه، أو عدم رضاه على القضاء والقدر، كأن يقول: "حصل لي كذا وأنا كنت أريد كذا"، أو يقول: "لم حصل لي كذا"، فالله تعالى لا يُسْاَلُ عما يفعل، أو يقول عن أمرٍ قدَّره اللهُ عليه -كمرض، أو فقرٍ مثلًا-: "أيرضيك أن حدث لي كذا؟" وهذا فيه سوء أدب فيما نرى، ولولا أن اللهَ تعالى رَضِيَ ذلك قَدَرًا، وقضاهُ على عبده، ما وقع، وهو سبحانه يختبر عباده بالسراء والضراء، ثم إن الدعاء بالعامية وإن كان لا يضر، ولو كان في الصلاة، كما بينا في الفتوى رقم: 53502 إلا أن الدعاء بالمأثور أفضل، فإن عدل عنه، فالأفضل الالتزام بالفصحى من غير لحنٍ، إذا أمكنه ذلك، من غير تكلف، قال النفراوي: وَأَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، وَغَيْرِ مَلْحُونٍ؛ لِلْقَادِرِ عَلَى الصَّوَابِ ... اهـ.
وفي غذاء الألباب للسفاريني الحنبلي: الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ صَحِيحَ اللَّفْظِ؛ لِتَضَمُّنِهِ مُوَاجَهَةَ الْحَقِّ بِالْخِطَابِ. اهـ.
ومن عجز عن الدعاء بغير لحن، فلا حرج عليه في ذلك، كما قال ابن الصلاح في فتاواه: الدُّعَاء الملحون مِمَّن لَا يَسْتَطِيع غير الملحون، لَا يقْدَح فِي الدُّعَاء، ويعذر فِيهِ. اهـ.
وكذا من علم أنه إذا التزم الفصحى تَكَلَّفَ لها، وذهب خُشُوعُه، وانصرفَ قلبُه إلى تصحيح الألفاظ، فإنه يدعو بالعامية، ولا شيء عليه.
وقد سُئِلَ شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عَنْ رَجُلٍ دَعَا دُعَاءً مَلْحُونًا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءً مَلْحُونًا؟
فَأَجَابَ بقوله: مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، فَهُوَ آثِمٌ، مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ. وَأَمَّا مَنْ دَعَا اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ بِدُعَاءِ جَائِزٍ؛ سَمِعَهُ اللَّهُ، وَأَجَابَ دُعَاءَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُعْرَبًا أَوْ مَلْحُونًا. وَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ لَا أَصْلُ لَهُ؛ بَلْ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُ الْإِعْرَابَ، أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ الْإِعْرَابَ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا جَاءَ الْإِعْرَابُ ذَهَبَ الْخُشُوعُ، وَهَذَا كَمَا يُكْرَهُ تَكَلُّفُ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ، فَإِذَا وَقَعَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ مِنْ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانُ تَابِعٌ لِلْقَلْبِ. وَمَنْ جَعَلَ هِمَّتَهُ فِي الدُّعَاءِ تَقْوِيمَ لِسَانِهِ، أَضْعَفَ تَوَجُّهَ قَلْبِهِ؛ وَلِهَذَا يَدْعُو الْمُضْطَرُّ بِقَلْبِهِ دُعَاءً يَفْتَحُ عَلَيْهِ، لَا يَحْضُرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ. وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَبِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَصْدَ الدَّاعِي وَمُرَادَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَوِّمْ لِسَانَهُ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَنَوُّعِ الْحَاجَاتِ. اهـ.
والله تعالى أعلم.