عنوان الفتوى : كروية الأرض بين النافين والمثبتين
لاحظت أن هناك إجماعين مختلفين عن شكل الأرض. ابن تيمية ذكر إجماع العلماء على كروية الأرض. والقرطبي رد على من زعم أن الأرض كالكرة، وقال: والذي عليه المسلمون، وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها. فكيف يكون هناك إجماعان مختلفان؟ وهل يؤخذ بالإجماع في مثل هذه المسائل؟ وما الصواب جزاكم الله خيرا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي نقل القرطبي عليه الإجماع، هو وقوف الأرض وسكونها، وأما كرويتها فنفاها دون نقل إجماع، اعتمادا على قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [الرعد: 3].
قال: أي بسط الأرض طولا وعرضا ... في هذه الآية رد على من زعم أن الأرض كالكرة، ورد على من زعم أن الأرض تهوي ... والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها. اهـ.
وقد اعتمد القرطبي (المتوفى: 671 هـ) في نقله للإجماع، على قول بعض المتكلمين ونقلهم للإجماع، كما قال عبد القاهر البغدادي (المتوفى: 429هـ) في (الفرق بين الفرق): وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها، وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها ... وأجمعوا على أن الأرض متناهية الأطراف من الجهات كلها. اهـ.
ونفي كروية الأرض قول خاطئ في نفسه، فضلا عن نقل الإجماع عليه!! والإجماع إن حصل وصح نقله، لم تجز معارضته، فضلا عن حصول الإجماع على ما يعارضه! ومسألة كروية الأرض، أو استدارة الأفلاك مثال على ذلك، فالمتكلمون الذين نفوا ذلك، لم يكتفوا بالخطأ وفساد التصور، حتى جمعوا إلى ذلك نقل الإجماع عليه!
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض، هل هما جسمان كريان؟ فقال أحدهما: كريان. وأنكر الآخر هذه المقالة، وقال: ليس لها أصل، وردها. فما الصواب؟
فأجاب: السماوات مستديرة عند علماء المسلمين، وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من العلماء أئمة الإسلام: مثل أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي، أحد الأعيان الكبار من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد، وله نحو أربعمائة مصنف. وحكى الإجماع على ذلك الإمام أبو محمد ابن حزم، وأبو الفرج ابن الجوزي، وروى العلماء ذلك بالأسانيد المعروفة عن الصحابة والتابعين، وذكروا ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، وبسطوا القول في ذلك بالدلائل السمعية. وإن كان قد أقيم على ذلك أيضا دلائل حسابية.
ولا أعلم في علماء المسلمين المعروفين من أنكر ذلك؛ إلا فرقة يسيرة من أهل الجدل لما ناظروا المنجمين، فأفسدوا عليهم فاسد مذهبهم في الأحوال والتأثير، خلطوا الكلام معهم بالمناظرة في الحساب، وقالوا على سبيل التجويز: يجوز أن تكون مربعة أو مسدسة أو غير ذلك؛ ولم ينفوا أن تكون مستديرة، لكن جوزوا ضد ذلك. وما علمت من قال إنها غير مستديرة - وجزم بذلك- إلا من لا يؤبه له من الجهال. اهـ.
ثم ذكر أدلة ذلك من النصوص الشرعية.
وابن المنادي متوفى: 336 هـ. وابن حزم متوفى: 456هـ. وابن الجوزي متوفى: 597هـ. وكلهم أسبق من القرطبي، ناهيك عن آثار الصحابة والتابعين التي أشار إليها ابن تيمية وذكر طرفا منها، فقولهم هو المعول عليه، ومن خالفهم من العلماء فقوله خطأ، وليس من شرط العالم ألا يخطئ، والكمال عزيز، كما سبق وأن نبهنا عليه في الفتوى رقم: 131655.
وقال الدكتور عثمان علي حسن في أطروحته القيمة للدكتوراه (منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة 2 / 743) في ذكر نتائج الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد، في النتيجة الثامنة عشرة (أهل السنة أعمق علما وأسد عقلا).
قال: لما كان أهل السنة ملتزمين بالمنهج الصحيح، كان كلامهم في مسائل الكون صحيحاً متفقاً، لا يتكلمون فيها إلا بعلم عقلي أو سمعي، وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه: قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد: 17) ...
وقال ابن القيم رحمه الله في شرح آية: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} (النور: 35) قال رحمه الله: "النور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب؛ فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نوراً على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهدُ العقلِ والشرع والفِطرة والوحي، فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادفان ويتوافقان". أما غير أهل السنة من المتكلمين والمتصوفة وغيرهم، فكلامهم في مسائل الكون خبط من غير علم -وذكر كلام البغدادي السابق ثم قال- فهذا الذي قاله لا يدل عليه عقل ولا نقل، فضلاً عن الإجماع، بل هو -في زماننا هذا- أشبه بالأساطير. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: "والخطأ فيما تقوله الفلاسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، أعظم من خطأ المتكلمين، وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية، فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام، فإن أكثر أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم، ولا عقل ولا شرع". اهـ.
والله أعلم.