عنوان الفتوى : هل هناك فرق عند الجهمية بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح؟
هل هناك فرق عند الجهمية بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح؟ أي: هل يتضمن التصديق القلبي عندهم الأعمال القلبية؟ فالظاهر من ذكرهم أن انتفاء الوجل والخشية من المؤمن يسلبه لفظ الإيمان الظاهر، أن الأعمال القلبية عندهم داخلة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس هناك فرق بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح عند الجهمية في مسمى الإيمان! فكلاهما خارج عنه، والإيمان عندهم هو معرفة القلب، أو تصديقه فقط، ولا يدخل فيه مع ذلك شيء من عمل القلب؛ فضلًا عن عمل الجوارح.
ونظن أن السائل اختلط عليه الجهمية بالمرجئة، فالجهمية فرقة من فرق المرجئة، لا ينفون الإيمان بانتفاء أعمال القلوب، بل يصرحون بأن الإيمان هو مجرد المعرفة، ولا يدخلون فيها شيئًا من أعمال القلوب بعد التصديق.
وأما المرجئة فهم أنواع، فمنهم: الجهمية، الذين تقدمت الإشارة إلى قولهم، ومنهم: من يُدخل في الإيمان: عمل القلب، وقول اللسان.
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري فرق المرجئة واختلافاتهم في (مقالات الإسلاميين)، فقال: اختلفت المرجئة في الإيمان ما هو؟ وهم اثنتا عشرة فرقة: فالفرقة الأولى منهم: يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله، وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان، والخضوع بالقلب، والمحبة لله ولرسوله، والتعظيم لهما، والخوف منهما، والعمل بالجوارح، فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به، وهذا قول يحكى عن جهم بن صفوان. اهـ. ثم ذكر بقية فرقهم.
وقال في موضع آخر: الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط ... اهـ.
وقال ابن حزم في (الفصل في الملل والأهواء والنحل): اختلف الناس في ماهية الإيمان، فذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط، وإن أظهر اليهودية، والنصرانية، وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته، فإذا عرف الله تعالى بقلبه، فهو مسلم من أهل الجنة. وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان .. اهـ.
وقال أيضًا: غلاة المرجئية طائفتان:
- أحدهما: الطائفة القائلة بأن الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن عند الله عز وجل، وليٌّ له عز وجل، من أهل الجنة. وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه ..
- والثانية: الطائفة القائلة: إن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية، أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب، وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، وليّ لله عز وجل من أهل الجنة، وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي. اهـ.
وذكر الشهرستاني في (الملل والنحل) أقوال جهم بن صفوان، ومنها: أن من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه، لم يكفر بجحده؛ لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد، فهو مؤمن. قال: والإيمان لا يتبعض، أي: لا ينقسم إلى: عقد، وقول، وعمل. قال: ولا يتفاضل أهله فيه، فإيمان الأنبياء، وإيمان الأمة على نمط واحد؛ إذ المعارف لا تتفاضل!! وكان السلف كلهم من أشد الرادين عليه، ونسبته إلى التعطيل المحض. اهـ.
والمقصود أن الجهمية أخص من المرجئة، فهم فرقة من غلاتهم، لا يدخلون عمل القلب في مسمى الإيمان، وإنما الإيمان عندهم هو قول القلب فقط، وهو المعرفة، أو التصديق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: ومن هنا يظهر خطأ قول جَهْم بن صَفْوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنًا كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص، لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن!! قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر؛ ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به، وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أورد عليهم الكتاب، والسنة، والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر، معذب في الآخرة، قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه، فالكفر عندهم شيء واحد، وهو الجهل، والإيمان شيء واحد، وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون: هل تصديق القلب شيء غير العلم، أو هو هو؟ وهذا القول، مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة. وقد كفَّر السلف- كوَكِيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وغيرهم- من يقول بهذا القول. اهـ.
وقال في الرد على المنطقيين: والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم كما زعموه، مع أنه قول باطل، فإن النفس لها قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة إرادية علمية، فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته. وعبادته تجمع محبته، والذل له، فلا تكمل نفس قط إلا بعبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة تجمع معرفته، ومحبته، والعبودية له، وبهذا بعث الله الرسل، وأنزل الكتب الإلهية كلها، تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له .. والجهمية قالوا: "الإيمان مجرد معرفة الله" وهذا القول وإن كان خيرًا من قولهم - يعني الفلاسفة أو المنطقيين - فإنه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله، وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولواحقه، وهذا أمر لو كان له حقيقة في الخارج لم يكن كمالًا للنفس إلا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى، فهؤلاء الجهمية من أعظم مبتدعة المسلمين، بل جعلهم غير واحد خارجين عن اثنتين وسبعين فرقة، كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وهو قول طائفة من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم، وقد كفر غير واحد من الأئمة -كوكيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل، وغيرهما- لمن يقول هذا القول، وقالوا: هذا يلزم منه أن يكون إبليس، وفرعون، واليهود الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم مؤمنين!! فقول الجهمية خير من قول هؤلاء، فإن ما ذكروه هو أصل ما تكمل به النفوس، لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين إرادتها التي هي مبدأ القوة العملية، وجعلوا الكمال في نفس العلم، وإن لم يصدقه قول ولا عمل، ولا اقترن به من الخشية، والمحبة، والتعظيم، وغير ذلك مما هو من أصول الإيمان ولوازمه. وأما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد. اهـ.
والمقصود أن الإيمان عند الجهمية لا يدخل فيه شيء من أعمال القلوب، كالخشية، والمحبة، والتعظيم، قال شيخ الإسلام: ولا بد أن يكون مع التصديق شيء من حب الله، وخشية الله، وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيمانًا ألبتة، بل هو كتصديق فرعون، واليهود، وإبليس، وهذا هو الذي أنكره السلف على الجهمية. اهـ.
وخالف الجهميةَ في ذلك جمهورُ المرجئة، وأدخلوا عمل القلب في مسمى الإيمان، قال شيخ الإسلام: وبالجملة؛ فلا يستريب من تدبر ما يقول في أن الرجل لا يكون مؤمنًا بمجرد تصديق في القلب، مع بغضه لله ولرسوله، واستكباره عن عبادته، ومعاداته له ولرسوله؛ ولهذا كان جماهير المرجئة على أن عمل القلب داخل في الإيمان، كما نقله أهل المقالات عنهم، منهم الأشعري، فإنه قال في كتابه في المقالات: اختلف المرجئة في الإيمان ما هو؟ وهم اثنتا عشرة فرقة – ثم ذكرها كلها، وقال: - فهذه الأقوال التي ذكرها الأشعري عن المرجئة يتضمن أكثرها أنه لا بد في الإيمان من بعض أعمال القلوب عندهم، وإنما نازع في ذلك فرقة يسيرة: كجهم، والصالحي. اهـ.
والله أعلم.