عنوان الفتوى : تأثير الصغائر والمستحبات على الإيمان عند الخوارج والمعتزلة والمرجئة
ما تأثير الصغائر والمستحبات عند الخوارج والمعتزلة والمرجئة بما أنهم يقولون إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؟ وبارك الله فيك.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتأثير المستحبات عند من لا يثبت زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه ينحصر في زيادة الثواب وعلو الدرجة، وأما تأثير الصغائر فيكون بسفول الدرجات عند الجميع، ولكنهم يختلفون في تأثيرها على الإيمان، فأما المرجئة فلا أثر لها، بل ولا للكبائر على الإيمان، فإن الإيمان عندهم ـ كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: ليس بجميع الدين، ولكن الدين ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والفرائض جزء، والنوافل جزء. اهـ.
وأما الخوارج والمعتزلة: فذلك محل خلاف بينهم، بناء على خلافهم في تعريف الإيمان، وهل هو اجتناب الكبائر وفعل جميع الطاعات فرضها ونفلها؟ أم مع الفرائض دون النوافل؟ قال الدكتور أحمد بن عطية الغامدي في كتابه: الإيمان بين السلف والمتكلمين في مبحث: حقيقة الإيمان عند المعتزلة: جميع الآراء التي ذكرها الأشعري بالإضافة إلى ما تقدم، ترجع في جملتها إلى رأيين اثنين لا ثالث لهما، والخلاف في تعدد الآراء إنما يرجع إلى اللفظ لا إلى الحقيقة، وهذان الرأيان هما:
1ـ أن الإيمان هو جميع الطاعات فرضها ونفلها، واجتناب الكبائر.
2ـ أن الإيمان هو جميع الطاعات الفرض منها دون النفل، واجتناب الكبائر، وقد ذكر هذين الرأيين القاضي عبد الجبار حيث قال: الإيمان عند أبي علي وأبي هاشم عبارة عن أداء الطاعات الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبَّحات، وعند أبي الهذيل عبارة عن أداء الطاعات الفرائض منها والنوافل واجتناب المقبَّحات، ورأي المعتزلة الذي تتفق عليه والذي يبدو واضحاً من التعريفين السالفين هو جعل الطاعات المفروضة من الإيمان وهذا هو بعينه مذهب الزيدية الذين يوافقونهم في هذا الباب، والخلاف كما هو واضح ينحصر بينهم في النوافل هل هي داخلة في الإيمان أو لا؟ اهـ.
وقال أيضا: أما الصغائر فقد ذكر أبو الحسن الأشعري أنهم لم يتفقوا أيضاً على قول واحد بشأنه، بل دار بينهم الخلاف في ذلك على أقوال ثلاثة:
1ـ أن الله سبحانه يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر تفضلاً.
2ـ يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر باستحقاق.
3ـ أن الله لا يغفر الصغائر إلا بالتوبة. اهـ.
وقال عن مذهب الخوارج: ذهب الخوارج إلى أن الإيمان يتركب من مجموع أمور ثلاثة:
1ـ تصديق بالجنان.
2ـ إقرار باللسان.
3ـ عمل بالجوارح.
وهو كل عمل خير فرضاً كان أو نافلة مع ترك الكبائر، فهم يعتبرون الطاعات بجميع أنواعها إيماناً، موافقين بذلك جماعة السلف، ونقطة الخلاف بينهم وبين السلف في هذه المسألة أنهم جعلوا ذلك كلاً لا يتجزأ، إذ لا يمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه عندهم، بل إذا ذهب البعض ذهب الكل، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص أبداً فبمعصية واحدة يخسر جميع أعمال الخير التي عملها طوال حياته. اهـ.
وأما مذهب المرجئة فقال عنه: هذا عرض لما ذكره مؤرخو الفرق من آراء المرجئة ويتلخص لنا منه أن المرجئة قالت:
1ـ إن العمل ليس ركناً في الإيمان.
2ـ إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل أهله فيه، إلا ما ذكرنا من خلاف فرقتي النجارية، وأصحاب محمد بن شبيب في هذا الأصل والذي بناءً عليه أخرجناهم من جملة المرجئة الخالصة.
3ـ إن مرتكب الكبيرة في الجنة دون سابقة عذاب، لأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
4 ـ إن الاستثناء في الإيمان غير جائز. اهـ.
وقال الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر في كتابه: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه: ذهبت الخوارج والمعتزلة مذهب أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان من حيث إنه شامل للأعمال والأقوال والاعتقادات، إلا أنهم فارقوا أهل السنة والجماعة بقولهم إن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله وأنه لا يقبل التبعض، ومن هنا كان الإخلال بالأعمال وارتكاب الكبائر عندهم مخرجاً من الإيمان كلية، على خلاف بينهم في تسميته كافراً، فالخوارج قطعوا بكفره، ونازعهم المعتزلة في الاسم وقالوا: نحن لا نسميه مؤمناً ولا كافراً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، أي: بين منزلة الإيمان والكفر، وإن كانوا قد اتفقوا جميعاً أنه يوم القيامة خالد مخلد في نار جهنم. اهـ.
وقال أيضا: قول الخوارج والمعتزلة في الإيمان هو أنه لا يزيد ولا ينقص، فإما أن يوجد كاملاً أو يذهب كاملاً ولذا، فإنهم يتأولون النصوص الواردة المصرحة بزيادة الإيمان على أن المراد بالزيادة فيها زيادة الألطاف أو الأدلة أو الثواب أو غير ذلك من التأويلات، ومن الأمثلة على هذا قول القاضي عبد الجبار المعتزلي عند قوله تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ـ والمراد عندنا بذلك أنه زادهم لطفاً وأدلة على جهة التأكيد لكي يكونوا إلى الثبات على الإيمان أقرب، وقوله أيضاً: فأما قوله تعالى من قبل: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ـ فقد بينا أنه لا ظاهر له وأنه يتأول على زيادة الألطاف والأدلة والبيان، أو على الثواب العظيم، فمن هذين النقلين يظهر أن قولهم في الإيمان هو عدم قبوله للزيادة والنقصان، وما ورد من النصوص دالاً على ذلك متأول عندهم على الألطاف أو الأدلة أو الثواب أو غير ذلك. اهـ.
وننقل هنا لتمام الفائدة أصلا جامعا عن أهل البدع في باب الإيمان ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: طوائف أهل الأهواء من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كَرَّاميهم، وغير كرَّاميهم، يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك ومن هنا غلطوا فيه وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول، بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وجه مذمومًا من وجه، ولا محبوباً مدعواً من وجه مسخوطاً ملعوناً من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعاً عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار أو الشفاعة في أحد من أهل النار، وحكى عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك، وأما أهل السنة والجماعة والصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكَرَّامية والكُلاَّبية والأشعرية والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق، فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه، فقالت المرجئة جهميتهم وغير جهميتهم هو مؤمن كامل الإيمان، وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذب كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين. اهـ.
والله أعلم.