عنوان الفتوى : حب الشهرة والظهور... الداء والدواء
كيف أوفق بين حبي للشهرة وإخلاص نيتي لله؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب أن طلب الشهرة وحب الظهور مناف للإخلاص، وقد قيل: قاصم الظهور حب الظهور.
وقد أكثر السلف من التحذير من طلب التصدر وحب الشهرة, فهذا شيخ المالكية أبو عثمان ابن الحدّاد يقول: ما صد عن الله مثل طلب المحامد وطلب الرفعة.
وقال الذهبي رحمه الله: فربما أعجبته نفسه وأحب الظهور فيعاقب... فكم رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية, فهذا داء خفيٌ سارٍ في نفوس الفقهاء, كما أنه سارٍ في نفوس المنفقين من الأغنياء... وهو داء خفيّ يسري في نفوس الجند والأمراء والمجاهدين. انتهى.
فعلى العبد أن يجاهد نفسه في دفع هذا الداء العضال عنها، ثم إن كان ما ذكر مجرد أوهام أو خواطر، فإنها لا تضره ولا تقدح في إخلاصه، وكذا إن كان حديث نفس وهو يجاهده ويسعى في التخلص منه، فلا يضره كذلك، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله عبد أحب الشهرة.
قال الذهبي معلقا: علامة المخلص الذي قد يحب شهرةً ولا يشعر بها أنه إذا عُوتب في ذلك لا يَحْرد ولا يبرئ نفسه, بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إليّ عيوبي, ولا يكن معجباً بنفسه لا يشعر بعيوبها, بل لا يشعر أنه لا يشعر, فإن هذا داءٌ مزمن. انتهى.
وأما من طلب الترؤس والتصدر ليعلم الناس وينفعهم وقصده بذلك مصلحتهم لا الاشتهار وذيوع الصيت، فهذا حسن محمود، وقد قال يوسف ـ عليه السلام ـ للملك: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {يوسف:55}.
وأخبر سبحانه عن دعاء عباد الرحمن بقوله حاكيا عنهم: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا {الفرقان:74}.
وأمر مدافعة حب الشهرة والظهور والرغبة في ذيوع الصيت شاق بلا شك، وإنما يوفق لمدافعته المخلصون من عباد الله، ولكنه يسير على من يسره الله عليه، وسبيل ذلك أن يعلم العبد علما جازما أن الناس لا ينفعون ولا يضرون، فلا يزين مدحهم، ولا يشين ذمهم، وإنما الذي يزين مدحه ويشين ذمه هو الله تعالى، ومن ثم فلا يكون له مقصود غيره ولا يبتغي بعمله غير وجهه، ويعلم كذلك أن حرصه على الشهرة يفسد دينه، كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي وغيره: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه.
فيكره العاقل أن يبيع دينه بهذا العرض الفاني والحطام القليل، يقول العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ مبينا الداء والدواء: لا يجتمعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبةُ المدحِ والثناءِ والطمعُ فيما عِندَ الناس، إلا كما يجتمعُ الماءُ والنارُ، والضب والحوتُ، فإذا حدثتكَ نفسُكَ بطلب الإخلاصِ فأقبِل على الطمع أولًا فاذبحهُ بسِكين اليأسِ، وأقبِل على المدح والثناء، فازهَدْ فيهما زُهدَ عُشاقِ الدنيَا في الآخرة، فإذا استقامَ لك ذَبحُ الطمع والزهدُ في الثناءِ والمدح سَهُلَ عليك الإخلاصُ، فإن قلت: وما الذي يسهلُ على ذَبحَ الطَّمعِ، والزهدَ في الثناءِ والمدح؟ قلتُ: أما ذَبحُ الطمع فيُسَهِّلُه عليك عِلمُكَ يقينًا أنه ليس من شيءٍ يُطمَعُ فيه إلا وبيد الله وحدَه خزائنُه لا يملكُهَا غيرُه، ولا يُؤتي العبدَ منها شيئًا سواه، فاطلبه من الله، وأما الزهدُ في الثناء والمدح، فيسهلُه عليكَ علمك أنه ليس أحدٌ ينفعُ مدحُه ويزينُ، ويضرُّ ذمُّه وَيشِينُ، إلا الله وحدَه، كما قال ذلك الأعرابي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ حَمدِي زَينٌ، وإنَّ ذَمِّي شَينٌ، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاكَ اللهُ عز وجل ـ فازهد في مدح من لا يَزِينُكَ مَدحُه، وفي ذمِّ من لا يَشنيُك ذمُّه، وارغَب في مدحِ من كل الزين في مدحهِ، وكلُّ الشَّينِ في ذمَّه، ولن يُقدَرَ على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدتَ الصبرَ واليقينَ كنتَ كمن أرادَ السفَر في البحر في غير مركب. انتهى.
والله أعلم.