عنوان الفتوى : كيفية التوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الناس
لا أعلم من أين أبدأ؟ أنا شاب أثقلتني الذنوب، وأريد العودة إلى الله عز وجل، لكن لا أعلم من أين أبدأ، وكيف سيقبل الله توبتي بعد كل ما فعلت؟ لمدة خمس سنوات تقريبا، ابتليت بمواقع التواصل الاجتماعي، فكنت أقوم بعمل حسابات مزيفة على الفيسبوك، وآخذ صورا، وأدعي أنها لي، وكنت أتواصل مع النساء باسم بنت، وأقوم بالابتزاز والقذف، حتى الأطفال لم يسلموا مني، فكنت أجبرهم على التصوير، والقيام بأمور مخلة، وأعمل حسابات بأسمائهم، وأتهمهم في شرفهم. أيضا كنت أستخدم الواتساب، وأتواصل مع النساء اللاتي يخطبن "الخطابات" وكنت أكذب عليهن بأني بنت، وأريد الزواج، وأحكي لهن قصصا جنسية من نسج الخيال، على أنها حدثت معي، وأرسل لهن صور نساء، أنسبها لنفسي. أريد أن أتوب، فأنا أحترق في داخلي: كيف سيقبل الله توبتي؟ وكيف أرد الحق لأصحابه؟ هل أتواصل مع جميع الحسابات، وأخبرهم بأن الصور ليست لي، وأن الحديث كله كذب؟ وهل أتواصل مع أصحاب الصور، وأطلب منهم أن يسامحوني، علما بأن الحسابات كثيرة جدا، ويصعب علي التواصل معهم؟ أعرف أن ما فعلته إثم عظيم، لكن أسألكم بالله أن تدلوني على الطريق الصحيح كيف سيقبل الله توبتي؟ وكيف أرد الحق لأصحابه؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبرغم فظاعة مثل هذه الجرائم والآثام، إلا أن باب التوبة مفتوح، لا يغلقه شيء حتى تطلع الشمس من مغربها، وما لم يغرغر العبد بروحه. فأبشر بالخير ما دمت صادق النية، والعزم على التوبة، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر : 53) وقال سبحانه: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (الفرقان: 70).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
وأما ما استشكلته من رد الحقوق إلى أصحابها، أو استحلالهم منها، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فما تيسر من ذلك، فافعله، وما لم يتيسر، فالجأ إلى الله تعالى في أن يرضي عنك خصومك يوم القيامة، فقد ذكر الغزالي في كتاب (منهاج العابدين) كيفية التوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الناس، في المال، وفي النفس، وفي العرض، وفي الحرمة، والدين، وذكر تفصيل ذلك، ونبه على أن الاستحلال يكون إذا لم يخش الظالم زيادة غيظ المظلوم، أو هيج فتنة.
قال رحمه الله: فإن خشيت ذلك، فالرجوع إلى الله تعالى ليرضيه عنك، والاستغفار الكثير لصاحبه ... وجملة الأمر، فما أمكنك من إرضاء الخصوم عملت. وما لم يمكنك، راجعت الله سبحانه وتعالى بالتضرع، والصدق ليرضيه عنك، فيكون ذلك في مشيئة الله تعالى يوم القيامة، والرجاء منه بفضله العظيم، وإحسانه العميم: أنه إذا علم الله الصدق من قلب العبد، فإنّه سبحانه يرضي خُصَمَاءَه من خزانة فضله. اهـ.
ونقل ذلك الجمل في حاشيته على شرح المنهج، ثم قال: قال الزركشي: وهو في غاية الحسن، والتحقيق. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة، الفتوى رقم: 201097.
ثم عليك بكثرة أعمال البر والطاعة، تعويضا عما فات؛ فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (هود: 114)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ، تَمْحُهَا. رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وحسنه الألباني.
والله أعلم.