عنوان الفتوى : حكم الهجر فوق ثلاث
قبل ما يقارب ثلاث سنوات، وصلني خبر بأن جارا لي كان يغتابني، فتحققت من الأمر، وتأكدت منه. فما كان مني إلا أن قاطعته لمدة سنتين كاملتين. علما أنه جار سيئ الخلق، يكثر من الجهر بالمعصية كشرب الخمر، وسب الذات الإلهية. فما حكم مقاطعتي له، علما أني بدأته السلام قبل فترة بسيطة، ولم أزد على ذلك بشيء، بل كان سلاما سطحيا.فهل يلحقني إثم من مقاطعته؟ وهل ينطبق علي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترفع أعمالي إلى الله؟وشكرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن كان الجار قد اجتمع فيه الأذى، ومظاهر الفسوق، فيجوز هجره إن كان ينزجر بذلك، أو يندفع شره، وإذا كنت عند اللقاء به لا ترفض السلام عليه، فلا تعتبر مهاجرا له، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو المرجح عندنا؛ لظاهر حديث: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. متفق عليه.
قال النووي: قال مالك، والشافعي، والجمهور: وتزول الهجرة بمجرد سلامه عليه، وهو ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. انتهى.
وقال ابن حجر: قال أكثر العلماء تزول الهجرة بمجرد السلام، وردّه. اهـ.
وفي صحيح مسلم أن قريباً لعبد الله بن مغفل خذف فنهاه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدوا، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين. قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ثم عدت تخذف، لا أكلمك أبداً.
قال النووي: في هذا الحديث هجران أهل البدع والفسوق، ومنابذي السنة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائماً، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام، إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه، ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم، فهجرانهم دائماً، وهذا الحديث مما يؤيده، مع نظائر له، كحديث كعب بن مالك وغيره. انتهى.
قال ابن عبد البر رحمه الله: أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث، لمن كانت مكالمته تجلب نقصاً على المخاطب في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه، أو دنياه، فرب هجر جميل، خير من مخالطة مؤذية. انتهى.
وقال ابن حجر في الفتح: ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على المبتدع، ولا الفاسق. انتهى.
وقال ابن العربي المالكي: وأما إن كانت الهجرة لأمر أنكر عليه من الدين كمعصية فعلها، أو بدعة اعتقدها، فيهجره حتى ينزع عن فعله وعقده، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في هجران الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة حتى صحت توبتهم عند الله، فأعلمه، فعاد إليهم. اهـ من عارضة الأحوذي.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب ما يجوز من الهجران لمن عصى. وقال كعب حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، وذكر خمسين ليلة.
وقال الحافظ ابن حجر في كتابه: فتح الباري شرح صحيح البخاري: أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز؛ لأن عموم النهي مخصوص لمن لم يكن لهجره سبب مشروع، فبين هنا السبب المسوغ للهجر، وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها؛ ليكف عنها. اهـ.
وسئل الرملي: هل يجب رد السلام على الفاسق أو لا؟
فأجاب: بأنه لا يجب رده إذا كان تركه زجرا له، ولا يستحب ابتداؤه. اهـ.
ونقل الخادمي في بريقة محمودية، عن كتاب القنية: ولا يسلم على الشيخ الممازح، أو الكذاب، أو اللاهي، ومن يسب الناس، ومن ينظر في وجوه النسوان في الأسواق، ما لم يعرف توبتهم. اهـ.
ومما يدل لذلك ما رواه نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ، فَلَا تُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وابن ماجه وحسنه الألباني.
قال القاري في مرقاة المفاتيح: قال ابن حجر: لا تقرئه مني السلام: لأنا أمرنا بمهاجرة أهل البدع، ومن ثم قال العلماء: لا يجب رد سلام الفاسق، والمبتدع، بل لا يسن زجراً لهما، ومن ثم جاز هجرهم لذلك. اهـ.
والله أعلم.