عنوان الفتوى : الرد على إحدى شبهات القائلين بأن الله في كل مكان
جزاكم الله خيرا على ما تقدمونه للإسلام والمسلمين. كنت أتناقش مع صديقي حول علو الله، استدللت عليه بأنك لا تنزه الله عن الأماكن القذرة، فقال لي: إن القرآن كلام الله، وأنت في قلبك شيء من كلام الله، وتدخل إلى دورات المياه. فكيف أجيب عليه إجابة علمية؟ وما هي الكتب التي تساعدني في ذلك؟ هل أقول له: إن الكلام الذي في الصدور مخلوق؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فمن المآخذ الحقيقة على من يعتقد أن الله تعالى في كل مكان! أن ذلك يستلزم وجوده في الأماكن التي يرغب عن ذكرها، وراجع في ذلك، الفتوى رقم: 8825.
وأما الاستدلال على ذلك بحال المسلم الذي يحفظ شيئا من القرآن، ويدخل الخلاء!! فمما يطول منه العجب؛ فإن الحكم هنا لبدن المسلم، لا لصفة الرحمن سبحانه وتعالى، فالداخل ما هو إلا بشر، لم تحل فيه صفة من صفات الله تعالى!
ولإيضاح ذلك نقول: الله تعالى في قلب المؤمن، ولا يعني هذا أن الله تعالى حلَّ في قلبه، وإنما المراد بذلك حبه، ومعرفته، والإيمان به، فكذلك كلام الله سبحانه في قلب المؤمن، لا يعني أنه حل فيه صفة من صفات الرب سبحانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية): من هذا الباب قول القائل: "القلب بيت الرب" وما يذكرونه في الإسرائيليات من قوله: "ما وسعتني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي، النقي، الورع اللين"، فليس المراد أن الله نفسه يكون في قلب كل عبد، بل في القلب معرفته، ومحبته، وعبادته. والنائم يرى في المنام إنسانا يخاطبه، ويشاهده، ويجري معه فصولا، وذلك المرئي قاعد في بيته، أو ميت في قبره، وإنما رأى مثاله. اهـ.
وقال في (أحاديث القصاص): منها: «ما وسعني سمائي ولا أرضي، بل وسعني قلب عبدي المؤمن» هذا مذكور في الإسرائيليات. وليس له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومعناه: وسع قلبه الإيمان بي، ومحبتي، ومعرفتي. وإلا فمن قال: إن ذات الله تحل في قلوب الناس، فهو أكفر من النصارى الذين خصوا ذلك بالمسيح وحده. اهـ.
وهنا لا بد من التنبيه على الفرق الواضح بين وجود الذوات، ووجود الصفات، فالذوات قائمة بنفسها، والصفات لا تقوم بنفسها، إنما تقوم في الذوات. والله تعالى ذاته متصفة بصفات الكمال، وهذه الصفات لا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بالذات، فعلم الله -تعالى- مثلا، صفة من صفاته، لا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بذاته، فإذا آتى الله تعالى عبدا من عباده شيئا من علمه، فلا يعني ذلك أن صفة الله تعالى قد حلت فيه، وانتقلت إليه، وإنما علم الله تعالى كما هو، لا ينفك عنه، فكذلك كلامه لا يباينه، ولا ينتقل إلى غيره. قال شيخ الإسلام: المسلمون لا يقولون: إن القرآن جوهر قائم بنفسه، معبود، وإنما هو كلام الله الذي تكلم به. ولا يقولون: اتحد بالبشر.
وأما إطلاق حلوله في المصاحف، والصدور، فكثير من المنتسبين إلى السنة الخراسانيين وغيرهم، يطلق ذلك، ومنهم من العراقيين وغيرهم من ينفي ذلك، ويقول: هو فيه على وجه الظهور، لا على وجه الحلول. ومنهم من لا يثبته، ولا ينفيه، بل يقول: القرآن في القلوب والمصاحف، لا يقال هو حال، ولا غير حال؛ لما في النفي والإثبات من إيهام معنى فاسد، وكما يقول ذلك طوائف من الشاميين وغيرهم، ولا نزاع بينهم: أن كلام الله لا يفارق ذات الله، وأنه لا يباينه كلامه، ولا شيء من صفاته؛ بل ليس شيء من صفة موصوف، تباين موصوفها، وتنتقل إلى غيره، فكيف يتوهم عاقل، أن كلام الله يباينه، وينتقل إلى غيره؟ ولهذا قال الإمام أحمد: كلام الله، من الله، ليس ببائن منه، وقد جاء في الأحاديث والآثار: "أنه منه بدأ، ومنه خرج" ومعنى ذلك أنه هو المتكلم به، لم يخرج من غيره، ولا يقتضي ذلك أنه باينه وانتقل عنه، فقد قال سبحانه في حق المخلوقين: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} ومعلوم أن كلام المخلوق لا يباين محله، وقد علم الناس جميعهم أن نقل الكلام وتحويله، هو معنى تبليغه، كما قال: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} ... والكلام في الورق، ليس هو فيه، كما تكون الصفة بالموصوف، والعرض بالجوهر، بحيث تصير صفة له، ولا هو فيه، كما يكون الجسم في الحيز الذي انتقل إليه من حيز آخر، ولا هو فيه كمجرد الدليل المحض، بمنزلة العالم الذي هو دليل على الصانع! بل هو قسم آخر معقول بنفسه، ولا يجب أن يكون لكل موجود نظير يطابقه من كل وجه؛ بل الناس بفطرهم يفهمون معنى كلام المتكلم في الصحيفة، ويعلمون أن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته، ويحل في غيره، ويعلمون أن ما في الصحيفة ليس مجرد دليل على معنى في نفسه ابتداء، بل ما في الصحيفة مطابق للفظه، ولفظه مطابق لمعناه، ومعناه مطابق للخارج. انتهى.
ولمزيد الفائدة، يمكن الاطلاع على جواب الشيخ في مجموع فتاويه، حيث سئل: هل نفس المصحف هو نفس القرآن أم كتابته؟ وما في صدور القراء هل هو نفس القرآن، أو حفظه؟ وراجع أيضا الفتوى رقم: 238036.
وأخيرا نلفت نظر السائل، إلى أن المسلم الذي يحفظ شيئا من القرآن يدخل الخلاء، ولكن لا يجوز له أن يقرأ القرآن هناك، وراجع في ذلك، الفتوى رقم: 3262.
والله أعلم.