عنوان الفتوى : الديوبندية وابن تيمية وابن عربي
أشعر حقّا بالحزن؛ لأنكم جميعا تقولون : إن الديوبندية فرقة مبتدعة، لكن بعضهم يقوم بالبدع، وليس كلّهم، بالإضافة إلى أنّ التسمية لم يقم علماؤهم بتسمية أنفسهم بها، بل الأشخاص الذين يكرهونهم أو أساءوا فهمهم هم من أعطوهم هذا الاسم، وإلا فإنهم يتبعون السّنة، الشيء نفسه ينطبق على الوهابيين، فالناس يتهمونهم فقط بسبب تصرفات بعض الأشخاص، وهذا الموقع قد أوضح حقيقتهم، لكن كما قلت يبدو أنكم جميعًا تدعمون الفرقة التي تعجبكم، ويبدو أنكم تتغاضون عن أخطاء فرقتكم، لكن الفرق الأخرى يبدو أنكم الحَكَمُ عليها، الرجاء إخواني الأعزاء لا تفعلوا ذلك، دعونا نكن منصفين، ونسمع الحقيقة من الطرفين، لقد اعتقدت أيضًا أن الديوبندية فرقة مبتدعة؛ لأنني قرأت ذلك من موقعكم، لكن في وقت لاحق عرفت أن مجموعة من الأشخاص من أطلق عليهم هذا الإسم السيء، لذا الرجاء أن نكون منصفين ،وأريد أن أكون منصفًا هنا أيضًا، وأنصت لكلا الطرفين، أنا أحب شيخ الإسلام بن تيمية، لكن هل يمكن أن تشرح لي الحديث عنه بالتحديد في هذا الموقع "https://islamqa.org/hanafi/daruliftaa/8373"
الحمد لله.
أولا: الطائفة الديوبندية
سبق الكلام على طائفة الديوبندية في جواب السؤال رقم : (22473)، ورقم : (200321) ، وقد بينا أفكار الطائفة ومؤسسيها، وأنها تتبنى عقيدة الماتريدية، ومنهم من دخل في الصوفية، وقل بوحدة الوجود، وأن الموقف من المنتسبين إلى الطائفة " يختلف باختلاف الأشخاص : فمن كان منهم معانداً داعياً إلى بدعته، فيجب التحذير منه وبيان ضلاله وانحرافه ، وأما من لم يكن داعياً إلى بدعته واتضح من قوله وعمله طلب الحق والسعي إليه، فإنه يُناصح ويبين له خطأ هذا المعتقد وإرشاده بالتي هي أحسن ، لعل الله أن يرده إلى الحق".
ونحن معك في أن كثيرا ممن ينتمي إلى طائفة قد لا يكون متبنيا لأفكارها، إما جهلا أو عدم اهتمام أنه يخالف أفكارها أو بعضها عن قناعة، ولهذا فإن كل شخص له حكمه، والواجب العدل والإنصاف.
وقضية الاسم لا يعول عليها في الحكم على الأعيان، وغالبا ما يكون الاسم القبيح من تلقيب الخصوم، كما ذكرت. فما دام الشخص لا يقول بالبدعة المعينة، فهو برئ منها، لا يحمل عليه قول غيره ، ولا عمله ، بل وإن سمي باسم الطائفة المعينة، أو الجماعة المعينة، فإن مجرد التسمية إنما تذكر للتمييز، لا تذكر للحكم على الأعيان بمقتضى أسمائهم؛ إنما يحكم على الناس بمقتضى ما يقولونه هم، أو يفعلونه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" فَأَهْلُ الْحَقِّ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ـ عَلَى الْإِطْلَاقِ ـ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ ؛ فَلَيْسَ الْحَقُّ لَازِمًا لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ ، دَائِرًا مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ ، لَا يُفَارِقُهُ قَطُّ ، إلَّا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم ؛ إذْ لَا مَعْصُومَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ غَيْرُهُ ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى عِبَادِهِ ، وَأَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .
وَلَيْسَ الْحَقُّ ـ أَيْضًا ـ لَازِمًا لِطَائِفَةٍ دُونَ غَيْرِهَا ، إلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ يَلْزَمُهُمْ ؛ إذْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ : فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ مَعَ الشَّخْصِ ، أَوْ الطَّائِفَةِ ، فِي أَمْرٍ دُونَ أَمْرٍ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُخْتَلِفَانِ كِلَاهُمَا عَلَى بَاطِلٍ ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ طَائِفَةً مَنْسُوبَةً إلَى اتِّبَاعِ شَخْصٍ ، كَائِنًا مَنْ كَانَ ، غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ ، بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ ، إذْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ : فَهُوَ مُبْطِلٌ ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ مَتْبُوعُهُمْ كَذَلِكَ ، وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ : لَكَانَ إجْمَاعُ هَؤُلَاءِ حُجَّةً ، إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْحَقِّ " انتهى من "التسعينية" (3/904).
ويقول أيضا:
" فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم ، والحب والبغض ، والموالاة والمعاداة ، والطاعة والمعصية ، والبر والفجور ، والعدالة والفسق ، والإيمان والكفر : هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة ؛ فأما سوى ذلك من الأسماء ، فإنما تُذْكَر للتعريف ، كأسماء الشعوب والقبائل ؛ فلا يجوز تعليق الأحكام الشرعية بها ، بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف ، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ؛ كحال من يعلق الموالاة والمعاداة بأسماء القبائل أو البلدان أو المذاهب المتبوعة في الإسلام ، كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ، والمشايخ ونحوهم " انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (1/109) ط ابن قاسم.
ثانيا: المسائل العلمية الاعتقادية ينظر إليها من خلال الدليل الصحيح مقروناً بفهم الصحابة والتابعين لها
القضايا العلمية- اعتقادية أو غيرها- لا ينظر إليها من خلال العاطفة، كأن يقال: كيف ينتمي إلى هذه الطائفة فلان وفلان ثم لا تكون على الحق؟! وإنما ينظر إليها من خلال الدليل الصحيح، مقرونا بفهم الصحابة والتابعين، وأئمة الدين المرجوع إليهم ؛ مع اليقين بأن العالم والفاضل قد يخطئ ويزل، وربما كان مأجورا على خطئه إن كان قد اجتهد وبذل وسعه.
ثالثا: الواجب على المسلم تعلم العقيدة الصحيحة ولا ينشغل بالحكم على الطوئف
الواجب على العبد أن يعنى بصحة معتقده الذي سيلقى به ربه، في قضايا التوحيد، والإيمان، والصفات، وغيرها، فهذا ما ينبغي أن يشغله، لا الحكم على الطوائف أو الأفراد.
رابعا: التعليق على المقال
المقال المشار إليه فيه حق وباطل، فمن الحق الذي فيه وجوب العدل والإنصاف وترك التعصب، لكن ما ذكر فيه من أن ابن تيمية يقرب من التجسيم، أو أنه رد بعض الأحاديث الصحيحة التي تخالف قوله، فهذا باطل.
وابن تيمة بشر يخطئ ويصيب، لكن صوابه أكثر من خطئه، وهو إمام كبير، وعالم عظيم، وإذا أردت أن تعرف قدره فاقرأ ترجمة ابن عبد الهادي له في كتابه "العقود الدرية"، وترجمة أبي حفص البزار له في كتابه "الأعلام العلة"، وترجمة ابن كثير له في كتابه "البداية والنهاية"، بل قف على ثناء الحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام البلقيني، والإمام العيني، عليه، وتجد ذلك في تقريظهم لكتاب "الرد الوافر" للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي.
وانظر تبرئة ابن تيمية وابن القيم من التجسيم على لسان الإمام الملا علي القاري الحنفي، في شرحه على الشمائل، وعلى مشكاة المصابيح، وتجد ذلك في جواب السؤال رقم : (96323)، ورقم : (262375).
خامسا: الكلام على ابن عربي
ابن عربي الحاتمي الطائفي الصوفي، له كفريات شهيرة، وقد كفّره كثير من أهل العلم، كالبلقيني وغيره، كما بينا في جواب السؤال رقم: (7691) ، فلا وجه لمقارنته بشيخ الإسلام ابن تيمية، وحسبك فيه قول الذهبي في ترجمته:
"ومن أردأ تواليفه كتاب (الفصوص)، فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله!
وقد عظمه جماعة، وتكلفوا لما صدر منه ببعيد الاحتمالات، وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا، أنه سمع الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول عن ابن العربي: شيخ سوء، كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا" انتهى من "سير أعلام النبلاء" (23/ 48).
وقال أبو حيان رحمه الله: "ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة: كالحلاج، والشوذى، وابن أحلى، وابن العربي المقيم كان بدمشق، وابن الفارض. وأتباع هؤلاء كابن سبعين، ... " انتهى من "تفسير البحر المحيط" (3/ 464).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقد كنت سألت شيخنا الإمام سراح الدين البلقيني عن ابن العربي فبادر الجواب بأنه كافر فسألته عن ابن الفارض فقال لا أحب أن أتكلم فيه قلت فما الفرق بينهما والموضع واحد وأنشدته من التائية فقطع علي بعد إنشاد عدة أبيات بقوله هذا كفر هذا كفر" انتهى من "لسان الميزان" (4/ 318).
والنصيحة لك أن تطلب عقيدة السلف من خلاف مصنفات الأئمة المتقدمين، كالسنة للمزني، والخلال، ولعبد لله بن أحمد، والتوحيد لابن منده، ولابن خزيمة، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للطبري اللالكائي، وغيرها.
والله أعلم.