أرشيف المقالات

أهل الرضا

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
أهل الرضا

 
الحمد لله، نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارًا بربوبيته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، النبي الكريم خيرُ مَن عبَدَ اللهَ وشكر؛ فاللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أُذن بخبر، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
 
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، ولا فهم لنا إلا ما فهمتنا، إنك أنت الجَوَاد الكريم، وبعد:
فإن مِن أهم ما ينبغي أن يكون لدى كل مسلم عارف بربه، عالمٍ بتوجيهات دينه: أن يكونَ صاحب رضا عن الله وعن أقداره، فإذا حقق المسلم هذا الشرط نال الخير في دارَيْهِ.
 
الرضا، ما الرضا؟
إنه بابُ الله الأعظم، وجنة الدنيا، وسراج العابدين؛ (مدارج السالكين: 2/ 172).
الرضا: الذي هو سكون القلب، وراحته باختيار الله عز وجل، بلا جزعٍ ولا وجع،الرضا: الذي هو محبةُ ما جادَتْ به الأقدار، وما حكَم به ربُّنا العزيز الغفار، بلا ندم ولا ألم،يقول العلامة الراغب الأصفهاني: ورضا العبد عن الله: ألا يكرَهَ ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمرًا لأمره، ومنتهيًا عن نهيه؛ (مفردات القرآن: 1/ 558).
 
اعلَمْ - أخي المبارك - أن جنة العباد في الدنيا هي الرضا؛ فبالرضا تكون السعادة والراحة، والسكينة والأمان، واعلم أن للرضا وفيرًا من الخير والثواب في شريعتنا،فمن هذا الخير:
1- أن الرضا صفةٌ مِن صفات أهل الإيمان؛ لأنهم برضاهم عن الله رضِيَ الله عنهم؛ فأهل الرضا لهم الرضا؛ قال جل وعز: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 7، 8]، فلما حقَّق أهل الإيمان الرضا من قلوبهم، نزل بهم العطاء والفضل من الله، بأن رضي عنهم، لَمَّا علِمَ ما في قلوبهم من حب الجهاد، وحب نصرة الدين، حتى لو كان الثمنُ أرواحَهم وأموالهم، وبايَعوا على هذا - نزل الرضا عليهم؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الفتح: 18].
 
2- الرضا مِن علامات صدق الإيمان بالله؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة: 119]،وعن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ذاق طَعْمَ الإيمان: مَن رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دِينًا، وبمحمدٍ رسولًا))؛(رواه مسلم).
 
والرِّضوان هو الرضا الكثير، ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى، خصَّ لفظ الرضوان في القرآن بما كان مِن الله تعالى؛ قال عز وجل: ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ [الفتح: 29]، وقال: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ ﴾ [التوبة: 21].
 
3- الرِّضا عطيَّةٌ مِن الله لأهل الجنة؛ فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسَعْديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتَنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خَلْقِك؟! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ قال: أحلُّ عليكم رضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا))؛ (أخرجه البخاري: 5/ 2398).
 
4- الرضا سبب الفلاحِ الحقيقي في هذه الحياة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلَح مَن أسلَم، ورُزِق كَفافًا، وقنَّعَه اللهُ بما آتاه))؛ (أخرجه مسلم: 2/ 730، برقم: 1054).
 
5- الرِّضا وصيةُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابِه الكرام؛ فلقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا هُرَيرةَ فقال: ((ارضَ بما قسَم اللهُ لك، تكُنْ أغنى الناسِ))؛(صحيح سنن الترمذي).
 
ومما رُوِيَ عن الصحابةِ: أن أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه كان إذا عزَّى قومًا قال: "ليس مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة، والموت أشدُّ مما قبله، وأهونُ مما بعده؛ فاذكُرْ مصيبتَك برسول الله صلى الله عليه وسلم، تَهُنْ عليك مصيبتُك".
 
وكان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "إن الخيرَ كلَّه في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى، وإلا فاصبِرْ".
 
ولما قدِم سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى مكة، وقد كُفَّ بصرُه، جعل الناس يُهرَعون إليه ليدعوَ اللهَ لهم، فجعَل يدعو لهم - وكان سعدٌ مستجابَ الدعوة؛ لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الله له باستجابة دعائه - قال عبدالله بن السائب: فأتيتُه وأنا غلام، فتعرَّفت عليه فعرفني، فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فيشفون، فلو دعوتَ لنفسك أن يرد اللهُ بصرَك، فتبسَّم وقال: "يا بُنيَّ، قضاءُ الله أحبُّ إليَّ مِن بصَري"؛ (مدارج السالكين: 2 / 227).
 
6- أصحاب الرضا أصحاب الجنة:
قال ابن تيميةَ رحمه الله تعالى: (والرضا مِن الله صفة قديمة، فلا يرضى إلا عن عبدٍ علِمَ أنه يوافيه على موجبات الرضا، ومَن رضِي اللهُ عنه لم يسخَطْ عليه أبدًا؛ فكلُّ مَن أخبر اللهُ عنه أنه رضي عنه فإنه مِن أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعدَ إيمانه وعملِه الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرِضِ الثناءِ عليه والمدح له،فلو علِمَ أنه يتعقَّبُ ذلك بما يُسخِط الربَّ، لم يكُنْ مِن أهل ذلك)؛ (الصارم المسلول: 572، 573)،وقال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، قال ابن كثير: "يخبِرُ تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعَدَّ لهم مِن جنات النَّعيم، والنَّعيم المقيم؛فاللهم اكتُبْ لنا رضاكَ، واجعَلْ عملنا كله صالحًا، ولوجهِك خالصًا، ولا تجعَلْ فيه لأحدٍ غيرِك شيئًا يا ربَّ العالَمين، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير