عنوان الفتوى : عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية وثناء الأئمة عليه وموقف ابن حجر منه
رجاءً الإجابة على سؤالي عن عقيدة الشيخ ابن تيمية ، حيث قرأت أنه انحرف عن العقيدة الصحيحة ، وأنه وصف الله بصفات البشر ، أيضاً قرأت أن علماء مثل ابن حجر العسقلانى لا يقدرونه ، هل يمكنكم توضيح هذه المسألة لي ؟ . شكراً لكم ، والسلام عليكم .
الحمد لله
أولاً :
يُعدُّ شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية من المجددين البارزين في الإسلام ،
وقد وُلد – رحمه الله – عام 661 هـ وتوفي عام 728 هـ ، وإذا كان أثر المجدد عادة في
زمانه وقرنه فإن أثر شيخ الإسلام ابتدأ في زمانه ولا يزال أثره إلى الآن على
العلماء وطلاب العلم والجماعات الإسلامية التي تنتسب للسنَّة ، ولا يزال أهل العلم
ينهلون من علمه في الرد على أعداء الدين من اليهود والنصارى ، والفرق المنسبة
للإسلام كالرافضة والحلولية والجهمية ، والفرق المبتدعة كالأشعرية والمرجئة .
وتحقيقاته في مسائل الفقه والحديث والتفسير والسلوك أشهر من أن نذكر نماذج لها ،
فكتبه ومؤلفاته شاهدة عليها ، وليس هو – رحمه الله – بحاجة لمن يزكيه من أمثالنا ،
بل علمه وفقهه حاضر شاهد لا ينكره إلا جاهل أو جاحد .
ثانياً :
وشهادات الأئمة في عصره ، وبعد عصره تبين للمنصف كذب الادعاءات التي يفتريها أعداء
الملة ، وأعداء السنَّة على هذا الإمام العلَم ، وفي ثنايا هذه التزكيات بيان علم
وفقه وقوة حجة هذا الإمام ، وبه يُعرف السبب الذي حاربه من أجله أهل الكفر والبدعة
، وهو أنه هدم أصولهم فخرَّ عليهم السقف من فوقهم ، وسنذكر في بعض هذه الشهادات صحة
اعتقاد شيخ الإسلام ابن تيمية ، ونصرته للسنَّة ، ورده على أهل البدع والخرافات .
وهذه التزكيات والشهادات لهذا الإمام لم تكن من تلامذته وأصحابه فحسب ، بل شهد له
حتى مخالفوه بالإمام والتقدم في العلم والفقه ، وقوة الحجة ، بل وشهدوا له بالشجاعة
والسخاء والجهاد في سبيل الله لنصرة الإسلام ، وهذه بعض الشهادات والتزكيات :
1. قال الإمام الذهبي – رحمه الله - في " معجم شيوخه " :
هو شيخنا ، وشيخ الإسلام ، وفريد العصر ، علماً ، ومعرفة ، وشجاعة ، وذكاء ،
وتنويراً إلهيّاً ً، وكرماً ، ونصحاً للأمَّة ، وأمراً بالمعروف ، ونهياً عن المنكر
، سمع الحديث ، وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته ، وخرج ، ونظر في الرجال ، والطبقات ،
وحصَّل ما لم يحصله غيره .
برَع في تفسير القرآن ، وغاص في دقيق معانيه ، بطبع سيَّال ، وخاطر إلى مواقع
الإِشكال ميَّال ، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها ، وبرع في الحديث ، وحفِظه ،
فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث ، معزوّاً إلى أصوله وصحابته ، مع شدة استحضاره
له وقت إقامة الدليل ، وفاق الناس في معرفة الفقه ، واختلاف المذاهب ، وفتاوى
الصحابة والتابعين ، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب ، بل يقوم بما دليله عنده ،
وأتقن العربيَّة أصولاً وفروعاً ، وتعليلاً واختلافاً ، ونظر في العقليات ، وعرف
أقوال المتكلمين ، وَرَدَّ عليهم ، وَنبَّه على خطئهم ، وحذَّر منهم ، ونصر السنَّة
بأوضح حجج وأبهر براهين ، وأُوذي في ذات اللّه من المخالفين ، وأُخيف في نصر
السنَّة المحضة ، حتى أعلى الله مناره ، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له
، وَكَبَتَ أعداءه ، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل ، وجبل قلوب الملوك
والأمراء على الانقياد له غالباً ، وعلى طاعته ، أحيى به الشام ، بل والإسلام ، بعد
أن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم ، فظُنت
بالله الظنون ، وزلزل المؤمنون ، واشْرَأَب النفاق وأبدى صفحته .
ومحاسنه كثيرة ، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي ، فلو حلفت بين الركن والمقام
لحلفت : إني ما رأيت بعيني مثله ، وأنه ما رأى مثل نفسه .
انظر " ذيل طبقات الحنابلة " لابن رجب
الحنبلي ( 4 / 390 ) .
2. وقال الحافظ عماد الدين الواسطي – رحمه الله - :
والله ، ثم والله ، لم يُرَ تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية ، علماً ، وعملاً
، وحالاً ، وخلُقاً ، واتِّباعاً ، وكرماً ، وحلْماً ، وقياماً في حق الله تعالى
عند انتهاك حرماته ، أصدق النَّاس عقداً ، وأصحهم علماً وعزماً ، وأنفذهم وأعلاهم
في انتصار الحق وقيامه همةً ، وأسخاهم كفّاً ، وأكملهم اتباعاً لسنَّة محمد صلى
الله عليه وسلّم ، ما رأينا في عصرنا هذا مَن تستجلي النبوة المحمدية وسننها من
أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة .
" العقود الدرية " ( ص 311 ) .
3. وقال الحافظ جلال الدين السيوطي – رحمه الله - :
ابن تيمية ، الشيخ ، الإمام ، العلامة ، الحافظ ، الناقد ، الفقيه ، المجتهد ،
المفسر البارع ، شيخ الإسلام ، علَم الزهاد ، نادرة العصر ، تقي الدين أبو العباس
أحمد المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبد
السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني .
أحد الأعلام ، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة ، وسمع ابن أبي اليسر ،
وابن عبد الدائم ، وعدّة .
وعني بالحديث ، وخرَّج ، وانتقى ، وبرع في الرجال ، وعلل الحديث ، وفقهه ، وفي علوم
الإسلام ، وعلم الكلام ، وغير ذلك .
وكان من بحور العلم ، ومن الأذكياء المعدودين ، والزهاد ، والأفراد ، ألَّف
ثلاثمائة مجلدة ، وامتحن وأوذي مراراً .
مات في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة .
" طبقات الحفاظ " ( ص 516 ، 517 ) .
وقد طعن ابن حجر الهيتمي [ من كبار فقهاء الشافعية ، توفي 974هـ ، وهو شخص آخر غير
ابن حجر العسقلاني ، صاحب فتح الباري ، المتوفي 852هـ ] في شيخي الإسلام ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم كثيراً ، واتهمهما بالقول بالتجسيم والتشبيه وقبائح الاعتقادات ،
وقد ردَّ عليه كثيرون ، وبينوا زيف قوله ، وأظهروا براءة الإمامين من كل اعتقاد
يخالف الكتاب والسنة ، ومن هؤلاء :
4. الملا علي قاري – رحمه الله – حيث قال – بعد أن ذكر اتهام ابن حجر لهما وطعنه في
عقيدتهما - :
أقول : صانهما الله – أي : ابن القيم وشيخه ابن تيمية - عن هذه السمة الشنيعة ،
والنسبة الفظيعة ، ومن طالع " شرح منازل السائرين " لنديم الباري الشيخ عبد الله
الأنصاري قدس الله سره الجلي ، وهو شيخ الإسلام عند الصوفية : تبيَّن له أنهما كانا
من أهل السنة والجماعة ، بل ومن أولياء هذه الأمة ، ومما ذكر في الشرح المذكور ما
نصه على وفق المسطور :
" وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنَّة ، ومقداره في العلم ، وأنه
بريء مما رماه أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل ، على عادتهم في رمي أهل الحديث
والسنَّة بذلك ، كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب ، والناصبة بأنهم روافض ، والمعتزلة
بأنهم نوابت حشوية ، وذلك ميراث من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه ،
ورمي أصحابه بأنهم صبأة ، قد ابتدعوا ديناً محدثاً ، وهذا ميراث لأهل الحديث والسنة
من نبيهم بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة .
وقدس الله روح الشافعي حيث يقول وقد نسب إلى الرفض :
إن كان رفضا حب آل محمد *** فليشهد الثقلان أني رافضي
ورضي الله عن شيخنا أبي العباس بن تيمية حيث يقول :
إن كان نصباً حب آل محمد *** فليشهد الثقلان أني ناصبي
وعفا الله عن الثالث – وهو ابن القيم - حيث يقول :
فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته *** وتنزيهها عن كل تأويل مفتر
فإني بحمد الله ربي مجسم *** هلموا شهوداً واملئوا كل محضرِ " .
" مرقاة المفاتيح " لملا علي القاري ( 8 /
146 ، 147 ) .
وما بين علامتي التنصيص " " نقله الملا علي قاري عن الإمام ابن القيم من كتابه "
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " ( 2 / 87 ، 88 ) .
وسئل علماء اللجنة الدائمة :
يقول الناس : إن ابن تيمية ليس من أهل السنة والجماعة ، وإنه ضال مضل ، وعليه ابن
حجر ، وغيره ، هل قولهم صدق أم لا ؟ .
فأجابوا :
إن الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية إمام من أئمة أهل السنة والجماعة ، يدعو إلى
الحق ، وإلى الطريق المستقيم ، قد نصر الله به السنَّة ، وقمع به أهل البدعة والزيغ
، ومن حكم عليه بغير ذلك : فهو المبتدع ، الضال ، المضل ، قد عميت عليهم الأنباء ،
فظنوا الحق باطلاً ، والباطل حقّاً ، يَعرف ذلك من أنار الله بصيرته ، وقرأ كتبه ،
وكتب خصومه ، وقارن بين سيرته وسيرتهم ، وهذا خير شاهد وفاصل بين الفريقين .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ،
الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 2 / 451 ، 254 )
.
ثالثاً :
كلام الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي - رحمه الله – في شيخ الإسلام ابن
تيمية :
الحافظ ابن حجر العسقلاني إمام مشهور ، توفي عام 852 هـ ، وهو صاحب التصانيف
النافعة ، مثل " فتح الباري شرح صحيح البخاري " ، و " التلخيص الحبير " ، و " تهذيب
التهذيب " وغيرها ، وكان للحافظ ابن حجر كلمات متفرقات في شيخ الإسلام ابن تيمية ،
شهد له بها بالعلم والفضل والدفاع عن السنَّة ، وما ينتقده الحافظ ابن حجر – رحمه
الله – على شيخ الإسلام قابل للنقض ، وهو نفسه – رحمه الله – هناك من تعقبه في بعض
المسائل العقيدية ، ولا يهمنا هنا عرض ذلك ، والبحث فيه ، وإنما يهمنا نقل كلامه –
رحمه الله – في شيخ الإسلام ثناء ومدحاً ؛ ليتبين خطأ من قال إن الحافظ – رحمه الله
– لا يقدِّر شيخ الإسلام ابن تيمية ! .
وهذه نُبذ من كلام الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في حق شيخ الإسلام ابن تيمية –
رحمه الله - :
1. ألَّف الشيخ ابن ناصر الدين الدمشقي كتاباً سماه " الرد الوافر على من زعم أن من
سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر " ردّاً على واحدٍ متعصبي الأحناف زعم أنه لا يجوز
تسمية ابن تيمية بـ " شيخ الإسلام " ، وأنه من فعل ذلك فقد كفر ! ، وقد ذكر فيه
خمساً وثمانين إماماً من أئمة المسلمين كلهم وصف ابن تيمية بـ " شيخ الإسلام " ،
ونقل أقوالهم من كتبهم بذلك ، ولما قرأ الحافظ بن حجر رحمه الله هذا الكتاب – "
الرد الوافر " - كتب عليه تقريظاً ، وهذا نصه :
الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى .
وقفتُ على هذا التأليف النافع ، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لأجلها جامع ،
فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه ، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين
العلماء وشرَّفه ، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس ، وتلقيبه بـ " شيخ
الإسلام " في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية ، ويستمر غداً كما كان بالأمس ،
ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره ، أو تجنب الإنصاف ، فما أغلط من تعاطى ذلك وأكثر
عثاره ، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا ، وحصائد ألسنتنا بمنِّه
وفضله ، ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل إلا ما نبَّه عليه الحافظ الشهير
علم الدين البرزالي في " تاريخه " : أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما
مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين ، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت
حافلة جدّاً شهدها مئات ألوف ، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد أو
أضعاف ذلك : لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته ، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا
الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد ، وكان أمير بغداد وخليفة ذلك الوقت إذا ذاك
في غاية المحبة له والتعظيم ، بخلاف ابن تيمية فكان أمير البلد حين مات غائباً ،
وكان أكثر مَن بالبلد مِن الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة ، ومع
هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس ،
تأخروا خشية على أنفسهم من العامة .
ومع حضور هذا الجمع العظيم : فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته ، لا بجمع
سلطان ، ولا غيره ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنتم شهداء
الله في الأرض ) - رواه البخاري ومسلم - .
ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً ، بسبب أشياء أنكروها عليه
من الأصول والفروع ، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة ، وبدمشق ، ولا يحفظ عن
أحد منهم أنه أفتى بزندقته ، ولا حكم بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل
الدولة ، حتى حبس بالقاهرة ، ثم بالإسكندرية ، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه ،
وكثرة ورعه ، وزهده ، ووصفه بالسخاء ، والشجاعة ، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام
، والدعوة إلى الله تعالى في السر والعلانية ، فكيف لا يُنكر على مَن أطلق " أنه
كافر " ، بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام : الكفر ، وليس في تسميته بذلك ما
يقتضي ذلك ؛ فإنه شيخ في الإسلام بلا ريب ، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها
بالتشهي ، ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً ، وهذه تصانيفه طافحة
بالرد على من يقول بالتجسيم ، والتبري منه ، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب ، فالذي
أصاب فيه - وهو الأكثر - يستفاد منه ، ويترحم عليه بسببه ، والذي أخطأ فيه لا يقلد
فيه ، بل هو معذور ؛ لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه ، حتى
كان أشد المتعصبين عليه ، والقائمين في إيصال الشر إليه ، وهو الشيخ كمال الدين
الزملكاني ، يشهد له بذلك ، وكذلك الشيخ صدر الدين بن الوكيل ، الذي لم يثبت
لمناظرته غيره .
ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض ،
والحلولية ، والاتحادية ، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة ، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت
الحصر ، فيا قرة أعينهم إذا سمعوا بكفره ، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره
، فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه
المشتهرة ، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل ، فيفرد من ذلك ما يُنكر ، فيحذِّر
منه على قصد النصح ، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك ، كدأب غيره من العلماء ،
ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين بن قيم
الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف : لكان
غاية في الدلالة على عظم منزلته ، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم ، والتميز في
المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم ، فضلاً عن الحنابلة ، فالذي يطلق
عليه مع هذه الأشياء الكفر ، أو على من سمَّاه " شيخ الإسلام " : لا يلتفت إليه ،
ولا يعوَّل في هذا المقام عليه ، بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق ، ويذعن
للصواب ، والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل ، وحسبنا الله ، ونعم الوكيل .
صفة خطه أدام الله بقاءه.
قاله ، وكتبه : أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي ، عفا الله عنه ، وذلك في يوم
الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول ، عام خمسة وثلاثين وثمانمائة ، حامداً لله ،
ومصليّاً على رسوله محمد ، وآله ومسلماً .
" الرد الوافر " للإمام ابن ناصر الدين
الدمشقي ( ص 145 ، 146 ) ، ونقل الحافظ السخاوي – تلميذ ابن حجر – كلام شيخه في
كتابه " الجواهر والدرر " ( 2 / 734 – 736 ) .
02 ترجم الحافظ ابن حجر لشيخ الإسلام ابن تيمية ، عليهما رحمة الله ، ترجمة حفيلة
في كتابه " الدرر الكامنة " ، قال في أولها :
" .. وتحول به أبوه من حران سنة 67 ، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأربلي
والمسلم ابن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين ، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود
وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل ، وتفقه وتمهر ، وتميز وتقدم ، وصنف ودرس وأفتى
، وفاق الأقران ، وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول
والمعقول والإطالة على مذاهب السلف والخلف .. " انتهى .
الدرر الكامنة ، في أعيان المائة الثامنة "1/168) .
وقد نقل في هذه الترجمة كثيرا من نصوص الأئمة ، في الثناء على شيخ الإسلام رحمه
الله ، والإقرار بإمامته في علوم المعقول والمنقول ، ومن ذلك قوله :
03 " وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي ، في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين
عبد الله بن محمد بن خليل ، ما نصه : وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا
وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى ، شيخ التحقيق ، السالك بمن اتبعه أحسن
طريق ، ذي الفضائل المتكاثرة ، والحجج القاهرة ، التي أقرت الأمم كافة أن هممها عن
حصرها قاصرة ، ومتعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة ، وهو الشيخ
الإمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوراني ، إمام الأئمة ، بركة الأمة ،
علامة العلماء ، وارث الأنبياء ، آخر المجتهدين ، أوحد علماء الدين ، شيخ الإسلام ،
حجة الأعلام ، قدوة الأنام ، برهان المتعلمين ، قامع المبتدعين ، سيف المناظرين ،
بحر العلوم ، كنز المستفيدين ، ترجمان القرآن ، أعجوبة الزمان ، فريد العصر والأوان
، تقي الدين ، إمام المسلمين ، حجة الله على العالمين ، اللاحق بالصالحين ، والمشبه
بالماضين ، مفتي الفرق ، ناصر الحق ، علامة الهدى ، عمدة الحفاظ ، فارس المعاني
والألفاظ ، ركن الشريعة ، ذو الفنون البديعة ، أبو العباس ابن تيمية !! "
الدرر الكامنة (186-187) .
رابعاً :
إذا كانت هذه النصوص التي نقلناها أو أشرنا إليها ، من كلام الحافظ ابن حجر رحمه
الله ، أو مما نقله الحافظ عن غيره ، ناطقة بتقدير شيخ الإسلام ، والإشادة بمنزلته
من العلم والدين ؛ فإن ذلك لا يعني أن الحافظ لم يخالف شيخ الإسلام البتة في مسألة
من المسائل العلمية ، أو لم ينتقده قط ؛ فما زال أهل العلم يردون بعضهم على بعض ؛
من غير أن يلزم من ذلك أن يكون الراد لا يقدر المردود عليه قدره ، فضلا عن أن يبدعه
أو يضلله ، وقديما قال الإمام مالك رحمه الله قولته الشهيرة : " كل يؤخذ من قوله
ويترك ، إلا صاحب هذا القبر " ، أو نحوا من ذلك ، ـ يعني : رسول الله صلى الله عليه
وسلم ـ .
وهذا بغض النظر عما إذا كان الصواب ، في المسألة المعينة ، مع شيخ الإسلام ، أو مع
مخالفه ومن يرد عليه ، الحافظ ابن حجر أو غيره . فكيف إذا كان الصواب في عامة ما
أنكروه عليه ، أو معظمه في جانب شيخ الإسلام ، رحم الله الجميع .
ويمكن مراجعة كثير من هذه المسائل التي انتقدت على شيخ الإسلام ، ولا سيما من قبل
ابن حجر الهيتمي ، المشار إلى موقفه آنفا ، فيما كتبه الشيخ نعمان خير الدين ابن
الآلوسي رحمه الله ، في كتابه النافع : " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين " ، يعني
: أحمد بن تيمية ، وأحمد بن حجر الهيتمي ، عليهما رحمة الله .
وينظر أيضا كتاب : دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو بحث أكاديمي من
إعداد الدكتور : عبد الله بن صالح الغصن .
خامساً :
ما ورد في السؤال من أن شيخ الإسلام انحرف عن العقيدة الصحيحة ووصف الله تعالى
بصفات خلقه ، هو من أفرى الفرى ، وأبين الكذب على شيخ الإسلام ومنهجه وعقيدته ، ومن
يطالع شيئا من مصنفاته الكبار أو الصغار يتحقق ذلك ، ومن هذه النصوص والقواعد التي
يشق الإشارة إلى جميعها هنا ، فضلا عن نقلها ، قوله رحمه الله :
" اتفق سلف الأمة وأئمتها أن الله ليس كمثله شيء ، لا فى ذاته ولا في صفاته ولا في
أفعاله ، وقال من قال من الأئمة : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله
به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها " اهـ
فتاوى شيخ الإسلام (2/126) .
وقال رحمه الله :
" ثم القول الشامل في جميع هذا الباب : أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، أو وصفه به
رسوله ، وبما وصفه به السابقون الأولون ؛ لا يُتجاوز القرآن والحديث .
قال الإمام أحمد رضي الله عنه : لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه ، أو وصفه به
رسوله ؛ لا يتجاوز القرآن والحديث . ٍ
ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ، من غير تحريف
ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس
فيه لغز ولا أحاجى ، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه ، لا سيما إذا
كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول ، وأفصح الخلق في بيان العلم ، وأفصح الخلق في
البيان والتعريف والدلالة والإرشاد .
وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء ، لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ،
ولا في أفعاله ، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة ، وله أفعال حقيقة ، فكذلك
له صفات حقيقة ؛ وهو ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وكل
ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة ؛ فانه سبحانه مستحق للكمال الذي لا
غاية فوقه ، ويمتنع عليه الحدوث ؛ لامتناع العدم عليه ، واستلزام الحدوث سابقة
العدم ، ولافتقار المحدَث إلى محدِث ، ولوجوب وجوده بنفسه ، سبحانه وتعالى .
ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل ؛ فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه ، كما لا
يمثلون ذاته بذات خلقه ، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ؛ فيعطلوا
أسماءه الحسنى وصفاته العليا ، ويحرفوا الكلم عن مواضعه ، ويلحدوا في أسماء الله
وآياته .
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل ؛ أما المعطلون
فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ، ثم شرعوا في نفي
تلك المفهومات ؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل ؛ مثلوا أولا ، وعطلوا آخرا ؛ وهذا
تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته ، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم ،
وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى .. "
فتاوى شيخ الإسلام (5/26-27) .
ونصوص شيخ الإسلام في هذا المعنى كثيرة جدا ، كما أشرنا ، وفيما ذكرناه كفاية إن
شاء الله .
والله الموفق .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |