عنوان الفتوى : هل فسر ابن تيمية الاستواء بالجلوس، وهل أثبت ابن القيم صفة الطواف على الأرض؟
هل صحيح أن ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله أثبتو لله صفات لم يسبقهم إليها أحد ، وهي أن ابن القيم رحمه الله يثبت لله صفة فعلية وهي :طواف الله على الارض: وابن تيمية يؤول الاستواء بالقعود والجلوس ؟
الحمد لله
أولا:
الإمامان ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله : من أئمة الهدى المتمسكين بالكتاب والسنة واتباع السلف، ومؤلفاتهما تشهد لهما بذلك، مع ثناء العلماء عليهما، وتزكيتهما، وتبرئتهما من تهم التشبيه والتجسيم، ونحو ذلك من التهم الباطلة التي افتراها عليهما خصومهما .
وقد ذكرنا طرفا من ثناء الحافظ ابن حجر رحمه الله، وشيخ الإسلام البلقيني رحمه الله، والملا علي القاري رحمه الله، وغيرهم ، في جواب السؤال رقم : (96323) .
وانظر فيه قول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس ، وتلقيبه بـ " شيخ الإسلام " في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية ، ويستمر غداً كما كان بالأمس ، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره ، أو تجنب الإنصاف...
ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب ، إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة ، التي انتفع بها الموافق والمخالف : لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته ؛ فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم ، والتميز في المنطوق والمفهوم : أئمة عصره ، من الشافعية وغيرهم ، فضلاً عن الحنابلة" انتهى من تقريظه على كتاب "الرد الوافر" للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي.
وقال الملا علي القاري رحمه الله عنهما: "ومن طالع شرح منازل السائرين لنديم الباري الشيخ عبد الله الأنصاري الحنبلي، قدس الله تعالى سره الجلي، وهو شيخ الإسلام عند الصوفية حال الإطلاق ، بالاتفاق = تبين له أنهما كانا من أهل السنة والجماعة، بل ومن أولياء هذه الأمة".
وقال بعد أن نقل عن القيم رحمه الله كلاما بينا في إثبات الصفات ، وإثبات معانيها اللائقة بالله تعالى:
" وظهر أن معتقده موافق لأهل الحق ، من السلف وجمهور الخلف، فالطعن الشنيع ، والتقبيح الفظيع : غير موجه عليه، ولا متوجه إليه ؛ فإن كلامه بعينه ، مطابق لما قاله الإمام الأعظم، والمجتهد الأقدم في فقهه الأكبر" انتهى من "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (7/2778)، وهو بتمامه في "الوسائل شرح الشمائل" له (1/168). ومراده بالإمام الأعظم: أبو حنيفة رحمه الله.
ثانيا:
أثبت ابن تيمية رحمه الله الاستواء على العرش ، كما أثبته القرآن وأجمع عليه السلف، وحكى كلامهم في معناه، وأنه العلو والارتفاع .
وقد حكى أيضا عن بعضهم : تفسيره بالجلوس والقعود، وأنه ورد الجلوس في السنة، وأن الحديث تلقاه جماعة بالقبول .
ولم نقف على جزمه هو رحمه الله بتفسير الاستواء : بالجلوس والقعود، لكنه بين أن ما ورد من الآثار في ذلك ، يحمل على قعود ليس كقعود المخلوقين.
قال رحمه الله: " فإذا عرف أن ما وُصفت به الملائكة ، وأرواح الآدميين ، من جنس الحركة والصعود والنزول وغير ذلك ؛ لا يماثل حركة أجسام الآدميين وغيرها مما نشهده بالأبصار في الدنيا، وأنه يمكن فيها ما لا يمكن في أجسام الآدميين كان ما يوصف به الرب من ذلك أولى بالإمكان ، وأبعد عن مماثلة نزول الأجسام، بل نزوله لا يماثل نزول الملائكة ، وأرواح بني آدم، وإن كان ذلك أقرب من نزول أجسامهم.
وإذا كان قعود الميت في قبره ، ليس هو مثل قعود البدن ؛ فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ (القعود ، والجلوس) في حق الله تعالى، كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وغيرهما : أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد" انتهى من "مجموع الفتاوى" (5/ 527).
وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم : (258981) أن المشهور في تفسير الاستواء: أنه العلو والارتفاع.
قال البخاري في صحيحه: " باب : وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم. قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع ... وقال مجاهد: استوى: علا على العرش".
وقال البغوي رحمه الله: " (ثم استوى إلى السماء): قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء " انتهى من تفسير البغوي (1/ 78)، ونقله الحافظ في "الفتح" (13/ 417)، وقال: "وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه".
وأما الجلوس : فقد ورد في أحاديث لم تصح، لكن أثبته بعض السلف تفسيرا للاستواء .
كما جاء عن الإمام خارجة بن مصعب الضبعي، أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (1/ 105) .
وأثبت الحافظ الدارقطني: القعود، في أبيات مشهورة له.
وذكرنا أن المختار هو التوقف في إطلاق لفظ الجلوس والقعود.
فعلى فرض أن شيخ الإسلام جزم بإثبات هذا اللفظ، فهو تابع لمن أثبته من السلف، كخارجة بن مصعب، والدارقطني، وعبد الوهاب الوراق ، وقد أثنى عليه أحمد بأنه إمام، وكذلك أثبته: القاضي أبو يعلى، وأبو القاسم الأصفهاني.
فلا تصح الدعوى بأن ابن تيمية أثبت معنى لم يثبته السلف، فضلا أن يقال إنه أثبت صفة لم يثبتها السلف، فإن الاستواء ثابت بالنص والإجماع.
ثالثا:
ما جاء في كلام ابن القيم رحمه الله من أن الله تعالى يطوف على الأرض، كان اعتمادا على حديث رآه ابن القيم صحيحا.
قال رحمه الله: " [فصل في قدوم وفد بني المنتفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم]
روينا عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه، قال: كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك، فحدث بذلك عني، قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي، عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر، قال دلهم: وحدثنيه أيضا أبي الأسود بن عبد الله، عن عاصم بن لقيط: أن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق.
قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا فقال:
( أيها الناس ؛ ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، ألا لتسمعوا اليوم، ألا فهل من امرئ بعثه قومه ؟... ) .
وفيه ، قال:
( تلبثون ما لبثتم، ثم يتوفى نبيكم، ثم تلبثون ما لبثتم، ثم تبعث الصائحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئا إلا مات، والملائكة الذين مع ربك .
فأصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض ، وخلت عليه البلاد .
فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل، ولا مدفن ميت ، إلا شقت القبر عنه، حتى تخلفه من عند رأسه ، فيستوي جالسا" الحديث.
قال ابن القيم رحمه الله: " هذا حديث كبير جليل ، تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة، لا يُعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني، رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة، ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم ، وتلقوه بالقبول ، وقابلوه بالتسليم والانقياد ، ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته.
فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه ، وفي كتاب " السنة "، وقال: كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك، فحدث به عني.
ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب " السنة " له.
ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب " المعرفة ".
ومنهم حافظ زمانه ومحدث أوانه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في كثير من كتبه.
ومنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب " السنة ".
ومنهم الحافظ ابن الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، حافظ أصبهان.
ومنهم الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه.
ومنهم حافظ عصره أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني، وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم.
وقال ابن منده: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعاني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما .
وقد رواه بالعراق ، بمجمع العلماء وأهل الدين : جماعة من الأئمة ، منهم أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل، ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده، بل رووه على سبيل القبول والتسليم، ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد ، أو جاهل ، أو مخالف للكتاب والسنة.
هذا كلام أبي عبد الله بن منده...
وقوله : ( فيظل يضحك ) : هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى ، التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته ، كصفات ذاته . وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها.
وكذلك : ( فأصبح ربك يطوف في الأرض ) : هو من صفات فعله ، كقوله وجاء ربك والملك [الفجر: 22] ، هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك [الأنعام: 158] ، و: ( ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ) ، و: ( يدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة ) ، والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم ؛ إثبات بلا تمثيل ، وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل." انتهى من "زاد المعاد" (3/ 588- 593).
والحديث ضعفه الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند وقال: " إسناده ضعيف، مسلسل بالمجاهيل، عبد الرحمن بن عياش، ودلهم ابن الأسود، وأبوه الأسود بن عبد الله بن حاجب، مجهولون، ولم يؤثر توثيقهم إلا عن ابن حبان كعادته في توثيق المجاهيل، وعاصم بن لقيط، إن لم يكن ابن صبرة، فهو مجهول كذلك. وبقية رجاله ثقات".
إلى أن قال: "والعجب من ابن القيم وغيره ؛ كيف ذهبوا إلى تقويته وتصحيحه ، وفيه ما فيه، وقد قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 5/82: هذا حديث غريب جدا، وألفاظه في بعضها نكارة. وقال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" ، في ترجمة عاصم بن لقيط: وهو حديث غريب جدا" انتهى من "تحقيق المسند" (26/ 128).
فتبين أن عذر ابن القيم رحمه الله في ذلك هو تصحيحه الحديث، واعتماده على من رواه وقبله من الأئمة، وأن مضمونه لا يخرج عما ثبت في القرآن والسنة من المجيء والنزول والدنو.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |