أرشيف المقالات

نعمة الوالدين

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
نعمة الوالدين
 
من نعم الله على الإنسان أن يكون له والدان على قيد الحياة، يُمتِّع ناظريه بهما صباح مساء، ويستفيد من نصحهما وتوجيههما له في حياته الشخصية والعملية، فهما الأقرب إليه من أي شخص آخر، والأعلم بحاله وما يليق به في حياته، ما يضره وما ينفعه، والكيفية التي يتجنب بها الأول ويأخذ بالثاني.

إذا أردنا أن نعرف عظم حق الوالدين، فإن بالنا يذهب مباشرة إلى كلام ربنا - سبحانه وتعالى-، أسوق إلى القراء الأكارم الآية الكريمة التي تقول: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف:15]، عندما نقرأ هذه الآية نندهش من الإحسان ورد الجميل اللذين يقعان على عاتق الابن تجاه والديه، ويكون ذلك حين يشتد عوده ويحس بالاستقلالية التامة عنهما، في حين أنه قد بلغ بهما الضعف أقسى درجاته، وهنا يتوضح معدنه الأصيل وكرامته كإنسان في الاشفاق على من كانا سببا في وجوده في هذه الحياة، وأطعماه وألبساه وربياه حتى يكون رجلا يكابد لوحده شدائد الدنيا، وكان لهما السبق في الإحسان إليه وعاطفتهما وحبهما تجاهه فطرة زرعت في نفسيهما، بينما الابن قد يسعى إلى التكلف ليرد النزر اليسير من هذه العاطفة الجياشة، ومن سبل شكر الابن لربه أن يشكر خالقه على إحسانه إليه وإلى والديه أيضًا، والعجيب أن الآية الكريمة تختم بالتوبة من الذنوب، أي أنه بلغ بهذا الابن التقصير مبلغا كبيرا، فيؤنبه ضميره ولا يقوى على الرضا عن حاله وما أداه في حياته السالفة، فيجدد توبته المرة تلو الأخرى.

تقول أبيات جميلة للشافعي عن برّ الوالدين:






أطع الإله كما أمر
واملأ فؤادك بالحذر


الدين حق واجب
نور البصيرة والبصر


حافظ عليه فإنه
نعم السعادة تدخر


وأطع أباك فإنه
رباك من عهد الصغر


واخضع لأمك وارضها
فعقوقها إحدى الكبر


حملتك تسعة أشهر
بين التألم والضجر


فإذا مرضت فإنها
تبكي بدمع كالمطر


فأطعهما وقِّرهما
كيلا تعذب في سقر






 
 
هذه الأبيات المعبرة، تعطينا جمالاً عن اللغة وعن روعة نعمة الوالدين، فنحن بشر وزودنا بمشاعر إنسانية تجعلنا دوما نَحنّ ونأوي إلى حنان أم وعطف أب، وهكذا خلقنا بمضغة في الصدر تهتز وتتأثر، إذا حل بهما سوء أو شيء ما أتعبهما في الحياة.

أما من حرم أمه وأباه، فله فرصة عظيمة في ممارسة حبه بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة والتصدق بالمال على نية أن يصلهما الثواب وأن يحسن إلى من كان والداه يحسنان إليه في حياتهما، فكل ذلك برّ بالوالدين في مماتهما وجالب لرضا الرب قطعاً.

نحن كمسلمين، تمثل الأسرة بالنسبة إلينا النواة الأساسية في المجتمع، فهي أساس من أسسه المتينة، والحفاظ عليها يكون بإحياء هذه القيم وتوطيد العلاقة التي تربط الأبناء بالآباء، كما ورد في الحديث الشريف وإن كان إسناده ضعيفا فمعناه يبقى صحيحاً، ونص الحديث يقول: (البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ) - ضعّفه الشيخ الألباني -، فالإحسان يمتد إلى الأبناء وإلى الأحفاد وهلمَّ جرًّا، هي سلسلة متصلة لا انفصام لها، وتوطيدها، توطيد لأهم عرى المجتمع المسلم.

التنويه بفضل الوالدين والحث على برهما، واجب علينا جميعاً سواء كان ذلك بمواعظ بالمساجد أو بكتابات تنوه بفضلهما أو على وسائل الإعلام التي تصل إلى جموع الناس، فذلك سيلقن الأجيال هذه المعاني العظيمة وينشئهم النشأة الفاضلة، ويكون ذلك باستجلاب قصص عن السلف وقمة أخلاقهم وشمائلهم في معاملاتهم لآبائهم، أسوق إليكم ثلاث قصص فقط، فها هو حيوة بن شريح الذي يكون في حلقة علمه يعلم الناس، فتطل عليه والدته تسأله إلقاء الشعير للدجاج، فيقوم ويترك مجلسه ذاك، وكان أبو حنيفة يُضرب كل يوم ليدخل في القضاء، فأبى وبكى في بعض الأيام، ولما أطلق سراحه، قال أن غم والدته كان أشد عليه من وقع الأذى الجسدي الذي تلقاه،  وكان علي بن الحسن لا يأكل مع أمه وأبيه في صحن واحد فسئل عن هذا الأمر، فقال أنه ربما يكون بين يديه لقمة أطيب مما التي هي بين يدي أمه وأبيه، وهما يشتهيانها.
 
هذه القصص الثلاث لو ماثلناها بواقعنا، قد نحسبها من وحي الخيال! وفي الحقيقة، يُروى مثلها الكثير والكثير، ونَحسب أن السلف الذين سبقونا كانوا أنقياء السريرة ناصعي الأخلاق، ويجب علينا أن نوافق نهجهم الطيب ونسير على نفس طريقهم المستقيم، وأختم كلامي ببيتين رائعين من الشعر لأبي العلاء المعري يقول فيهما عن برّ الوالدين:






العيش ماض فأكرم والديك به
والأم أولى بإكرام وإحسانِ


وحسبها الحمل والإرضاع تدمنه
أمران بالفضل نالا كل إنسانِ







أبوك وأمك هما أصلا وجودك، وهما من ربياك ولقناك المبادئ التي تؤمن بها، وكنت صغيراً لا تفقه شيئا في الحياة، إدراك ذلك سيغرس في نفسك إذعانا لرغبتهما وخفضا لجناح الذل لهما، بما يوافق مبادئ الإسلام الحنيف، فإحسانك إليهما واجب عليك وهو دَين ترده، ولن تقدر على رده كاملاً مهما جاهدت وحاولت، على الأقل يكون لك شرف المحاولة! وخالقك لن ينسى لك مثقال ذرة من إحسان.

شارك الخبر

المرئيات-١