عنوان الفتوى : التصوير بين مضاهاة خلق الله وعدم المضاهاة
داود عليه السلام، أمير الموحدين، ليس من المعقول أن يفعل فعلا لمضاهاة خلق الله، والشرك. فكيف تقولون إن النحت، والرسم، مضاهاة لخلق الله؟ الشرائع تختلف في طريقة الصوم، وطريقة الصلاة، وطريقة التوبة، لكن عقيدة التوحيد ثابتة. فلا تجوز الصلاة للقبور، أو السجود للتماثيل، أو التبرك بالقبور إلخ. فأمور التوحيد لكل الأديان، فأنا لا يمكنني أن أجمع بين لعنة الله للمصورين -لعلة المضاهاة كما يقال- وبين ما كان يفعله نبي الله داود من تماثيل، وتصوير للحيوانات، والطيور؟ وما صحة الخبر أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- كانت لها دمية، على هيئة حصان بجناحين؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن ما جاء في قوله تعالى عن سليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ {سبأ:13}، ليس فيه أن هذه التماثيل لذوات الأرواح؛ لذا اختلف المفسرون في طبيعة تلك التماثيل.
جاء في فتح القدير: التماثيل: جمع تمثال: وهو كل شيء مثلته بشيء، أي: صورته بصورته من نحاس، أو زجاج، أو رخام، أو غير ذلك. قيل: كانت هذه التماثيل صور الأنبياء، والملائكة، والعلماء، والصلحاء، وكانوا يصورونها في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهادا. وقيل: هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان. اهـ.
فعلى القول بأنها ليست لذوات الأرواح: فلا إشكال أصلا.
وأما على القول بأنها تماثيل لذوات الأرواح: فلو سلمنا بأن نفس التصوير فيه مضاهاة لخلق الله، وأن المضاهاة هي علة التحريم: فليس ذلك بمانع من كون التصوير مباحا في الشرائع السابقة، فهو ليس قادحا في أصل التوحيد، والرسل عليهم السلام إنما اتفقت رسالاتهم في أصول الإيمان، والتوحيد، والأعمال، لا في فروعها.
قال ابن تيمية: وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد؛ الأنبياء إخوة لعلات، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي} فالدين واحد، وإنما تنوعت شرائعهم، ومناهجهم، كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}. فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية، والعملية. فالاعتقادية كالإيمان بالله، وبرسله، وباليوم الآخر، والعملية كالأعمال العامة المذكورة في الأنعام، والأعراف، وسورة بني إسرائيل كقوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} إلى آخر الآيات الثلاث. وقوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} إلى آخر الوصايا. وقوله: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} .فهذه الأمور هي من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع، كعامة ما في السور المكية؛ فإن السور المكية تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله؛ إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن لا يقر بأصل الرسالة. وأما السور المدنية، ففيها الخطاب لمن يقر بأصل الرسالة كأهل الكتاب الذين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وكالمؤمنين الذين آمنوا بكتب الله ورسله؛ ولهذا قرر فيها الشرائع التي أكمل الله بها الدين: كالقبلة، والحج، والصيام، والاعتكاف، والجهاد، وأحكام المناكح ونحوها؛ وأحكام الأموال بالعدل كالبيع، والإحسان كالصدقة، والظلم كالربا، وغير ذلك مما هو من تمام الدين .اهـ.
فما دام التصوير لذوات الأرواح -ولو قلنا بأنه فيه مضاهاة لخلق الله- ليس مناقضا لأصل التوحيد، فلا تشكل إباحته في الشرائع السابقة.
قال ابن عاشور: والتمثال هو الصورة الممثلة، أي المجسمة مثل شيء من الأجسام، فكان النحاتون يعملون لسليمان صورا مختلفة كصور موهومة للملائكة، وللحيوان مثل الأسود، ولم تكن التماثيل المجسمة محرمة الاستعمال في الشرائع السابقة، وقد حرمها الإسلام؛ لأن الإسلام أمعن في قطع دابر الإشراك؛ لشدة تمكن الإشراك من نفوس العرب وغيرهم. وكان معظم الأصنام تماثيل، فحرم الإسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها، ولكن لكونها كانت ذريعة للإشراك. واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظل من تماثيل ذوات الروح، إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها .اهـ باختصار.
على أن ما جاء في ذكر مضاهاة الخلق في شأن التصوير -كما في حديث عائشة، أنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلون وجهه، وقال: «يا عائشة، أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة، الذين يضاهون بخلق الله» قالت عائشة: «فقطعناه، فجعلنا منه وسادة، أو وسادتين». متفق عليه، وفي لفظ لمسلم: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يشبهون بخلق الله»- قد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به قصد المضاهاة، وليس المراد به عندهم أن نفس التصوير مضاهاة لخلق الله.
جاء في شرح صحيح البخاري لابن بطال: قال الطبري: إن قال قائل: ما أنت قائل فيمن صور صورة وهو لله موحد، ولنبيه عليه السلام مصدق، أهو أشد عذابا أم فرعون وآله؟ فإن قلت: من صور صورة، قيل: قد قال الله خلاف ذلك: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
قيل: ليس في خبر ابن مسعود خلاف للتنزيل، بل هو له مصدق، وذلك أن المصور الذي أخبر النبي عليه السلام أنه له أشد العذاب، هو الذي وصفه النبي عليه السلام- في حديث عائشة بقوله: (الذين يضاهون خلق الله).
قال المؤلف: المتكلف من ذلك مضاهاة ما صوره ربه في خلقه، أعظم جرما من فرعون وآله؛ لأن فرعون كان كفره بقوله: (أنا ربكم الأعلى) من غير ادعاء منه أنه يخلق، ولا محاولة منه أن ينشئ خلقا يكون كخلقه تعالى شبيها ونظيرا، والمصور المضاهي بتصويره ذلك، منطو على تمثيله نفسه بخالقه، فلا خلق أعظم كفرا منه، فهو بذلك أشدهم عذابا، وأعظم عقابا، وأما من صور صورة غير مضاه ما خلق ربه، وإن كان بفعله مخطئا، فغير داخل في معنى من ضاهى ربه بتصويره. فإن قيل: وما الوجه الذي تجعله به مخطئا إذا لم يكن في تصويرة لربه مضاهيا؟ قيل: لاتهامه نفسه عند من عاين تصويره، أنه ممن قصد بذلك المضاهاة لربه، إذ كان الفعل الذي هو دليل على المضاهاة منه ظاهرا، والاعتقاد الذي هو خلاف اعتقاد المضاهي باطنا، لا يصل إلى علمه راؤوه .اهـ.
وهذا التأويل يسقط به الإشكال الذي ذكرته من أساسه. وراجع لمزيد فائدة الفتوى رقم: 231577.
وأما قصة اتخاذ عائشة -رضي الله عنها- للعبة على هيئة فرس له جناحان: فقد أخرجها أبو داود في سننه، عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع، فقال: "ما هذا الذي أرى وسطهن؟ " قالت: فرس، قال: "وما هذا الذي عليه؟ " قالت: جناحان: قال: "فرس له جناحان؟! " قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه. وصححها ابن حبان.
وراجع حول فقه هذا الحديث، الفتوى رقم: 287824.
والله أعلم.