عنوان الفتوى : أدلة إباحة صناعة التصاوير للأطفال
لماذا أباح البعض التصاوير للأطفال، رغم أن المصور لا بدّ أن يكون حرًّا بالغًا مكلفًا؟ أليست علة المضاهاة واردة عليه، فلا يجوز له التصوير؛ حتى وإن كانت ألعاب أطفال؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل الذي اعتمد عليه جمهور العلماء في إباحة صناعة التصاوير للأطفال للعب بها، واستثنائها من عموم النهي عن التصوير: هو ما أخرجه البخاري، ومسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه، فيسربهن إلي، فيلعبن معي.
قال ابن حجر: واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات، واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض، ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن، وأولادهن، قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: استثنى أكثر العلماء من تحريم التصوير، وصناعة التماثيل صناعة لعب البنات، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
وقد نقل القاضي عياض جوازه عن أكثر العلماء، وتابعه النووي في شرح مسلم، فقال: يستثنى من منع تصوير ما له ظل، ومن اتخاذه لعب البنات؛ لما ورد من الرخصة في ذلك.
وهذا يعني جوازها، سواء أكانت اللعب على هيئة تمثال إنسان أم حيوان، مجسمة أم غير مجسمة، وسواء أكان له نظير في الحيوانات أم لا، كفرس له جناحان.
وقد اشترط الحنابلة للجواز أن تكون مقطوعة الرؤوس، أو ناقصة عضو لا تبقى الحياة بدونه، وسائر العلماء على عدم اشتراط ذلك.
واستدل الجمهور لهذا الاستثناء بحديث عائشة ـ رضي الله عنها - قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه، فيسربهن إلي، فيلعبن معي. وفي رواية قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا لها جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، فقال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه.
وقد علل المالكية، والشافعية، والحنابلة هذا الاستثناء لصناعة اللعب بالحاجة إلى تدريبهن على أمر تربية الأولاد.
وهذا التعليل يظهر فيما لو كانت اللعب على هيئة إنسان، ولا يظهر في أمر الفرس الذي له جناحان؛ ولذا علل الحليمي بذلك، وبغيره، وهذا نص كلامه، قال: للصبايا في ذلك فائدتان: إحداهما عاجلة، والأخرى آجلة: فأما العاجلة: فالاستئناس الذي في الصبيان من معادن النشوء، والنمو، فإن الصبي إن كان أنعم حالًا، وأطيب نفسًا، وأشرح صدرًا كان أقوى، وأحسن نموًا؛ وذلك لأن السرور يبسط القلب، وفي انبساطه انبساط الروح، وانتشاره في البدن، وقوة أثره في الأعضاء، والجوارح، وأما الآجلة فإنهن سيعلمن من ذلك معالجة الصبيان، وحبهم، والشفقة عليهم، ويلزم ذلك طبائعهن، حتى إذا كبرن، وعاين لأنفسهن ما كن تسرين به من الأولاد كن لهم بالحق، كما كن لتلك الأشباه بالباطل.
هذا وقد نقل ابن حجر في الفتح عن البعض دعوى أن صناعة اللعب محرمة، وأن جوازها كان أولًا، ثم نسخ بعموم النهي عن التصوير، ويرده أن دعوى النسخ معارضة بمثلها، وأنه قد يكون الإذن باللعب لاحقًا، على أن في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في اللعب ما يدل على تأخره، فإن فيه أن ذلك كان عند رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فالظاهر أنه كان متأخرًا. أهـ.
وأما ذكر مضاهاة خلق الله الذي جاء في حديث عائشة، أنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلون وجهه، وقال: «يا عائشة، أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة، الذين يضاهون بخلق الله» قالت عائشة: «فقطعناه، فجعلنا منه وسادة، أو وسادتين». متفق عليه، وفي لفظ لمسلم: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة، الذين يشبهون بخلق الله ».
فيجاب عنه بأن صناعة التصاوير للأطفال مستثنى من هذا الوعيد بحديث اللعب بالبنات، ولعل ذلك للمصلحة الغالبة على مفسدة المضاهاة.
على أن بعض العلماء يرى أن الوعيد فيمن قصد بتصويره المضاهاة، لا أن التصوير من حيث هو فيه مضاهاة، جاء في شرح صحيح البخاري لابن بطال: قال الطبري: إن قال قائل: ما أنت قائل فيمن صور صورة، وهو لله موحد، ولنبيه عليه السلام مصدق، أهو أشد عذابًا أم فرعون وآله؟ فإن قلت: من صوّر صورة، قيل: قد قال الله خلاف ذلك: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (قيل: ليس في خبر ابن مسعود خلاف للتنزيل، بل هو له مصدق، وذلك أن المصور الذى أخبر النبي عليه السلام أنه له أشد العذاب هو الذى وصفه النبي عليه السلام ـ في حديث عائشة بقوله: (الذين يضاهون خلق الله)، قال المؤلف: المتكلف من ذلك مضاهاة ما صوره ربه في خلقه أعظم جرمًا من فرعون، وآله؛ لأن فرعون كان كفره بقوله: (أنا ربكم الأعلى) من غير ادعاء منه أنه يخلق، ولا محالة منه أن ينشئ خلقًا يكون كخلقه تعالى شبيهًا ونظيرًا، والمصور المضاهي بتصويره ذلك منطو على تمثيله نفسه بخالقه، فلا خلق أعظم كفرًا منه، فهو بذلك أشدهم عذابًا، وأعظم عقابًا، وأما من صور صورة غير مضاه ما خلق ربه، وإن كان بفعله مخطئًا، فغير داخل في معنى من ضاهى ربه بتصويره. فإن قيل: وما الوجه الذى تجعله به مخطئًا إذا لم يكن في تصويرة لربه مضاهيًا؟ قيل: لاتهامه نفسه عند من عاين تصويره أنه ممن قصد بذلك المضاهاة لربه، إذ كان الفعل الذى هو دليل على المضاهاة منه ظاهرًا، والاعتقاد الذى هو خلاف اعتقاد المضاهي باطن لا يصل إلى علمه راءوه. اهـ.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 225688.
والله أعلم.