أرشيف المقالات

تغريدات ربيع الأدب (5)

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
تغريدات ربيع الأدب (5)
 
*حينَ يأتي المساءُ تغلبني غريزةُ الكِتابة على نفسي، فأجدني موزِّعًا نَظَراتي على أطفالي وزوجي وأمي وكتبي، ولا أكاد أستقرُّ في غرفة من الغرف، وكأنَّ شيئًا ضائعًا لي بين تقاسيم هذه الوجوه، أو زوايا هذه الغُرف.
لا يهدأ لي بال ولا يقرُّ لي قرار حتَّى أنتهي إلى خاطرةٍ تنغُل دودتُها في أعماقي، في نفسي، وفي كلِّ خليَّة من خلاياي، فإذا سجَّلتها ورضيتُ عنها بعض الرِّضا، أبتسمُ بعمق وكأنَّني جئتُ شيئًا لم تستطع الأوائلُ والأواخرُ الإتيانَ بمثله، وقد أُقبِّل أطفالي من شدَّة فرحي بهذا الإنجاز وأنقِدُهم بعضَ الدُّريهماتِ سرورًا وفرحًا!• حينَ يأتي المساء ألَملِمُ أفكاري الهاربة، أنصرفُ بعيدًا عن رائحة الكتب والنَّاس، أريد المشيَ بين أشجار البرتقال المتناثرة في شوارع مدينتي الحزينة، مستنشقًا عبيرَ أيَّامي المُتْرَعة بآمال الطُّفولة، التي تَأبى أن تفارقَ قلبي هذا الصَّغير العاشِق لامرأةٍ شبيهة بزهرة بريَّة يصعبُ على يدي اقتِطافُها، وعلى خاطري الفرح بشَذاها الفائِح في أعماقي، المنتشر في كلِّ زِاوية من زَوايَاي!• حين يأتي المساءُ أتذكَّر جدَّتي الحنون وهي جالسة بهدوء على فَرْوَةِ خروفٍ بيضاءَ أنيقةٍ كَقلْبِها الكبير، ونحن بقربها متحلِّقون حول مائدة الشَّاي، الحافلة بالخبز السَّاخنِ وزيت الزَّيتون وبعضِ الحلويات المنزليةِ المتواضعة!
• حين يأتي المساءُ أستسلمُ لذكريات طفولتي النَّائمة بهدوء في مخيّلتي المتعبة، أستلهِم منها أفكارِي وخوَاطري المكسورة بقلبٍ شارد، وقلمٍ مارد، وروحٍ خالية الجوانب بلْقَع!• يمتازُ كتابُ: "الأعلام"؛ للشَّاعر العلاَّمة خير الدِّين الزِرِكْلي بحلو الدِّيباجة، ودقَّة العبارة المختصرة، والتَّفنن في صياغتها، وهذه واحدة من روائعه: قال في ترجمة الشَّاعر عبد المحسن الكاظمي ج 4 ص 153: "ودخلَ مصرَ في أواخر سنة 1316 هـ، على أن يواصلَ سيرَه إلى أوربا، فطارَتْ شُهرتُه، وفرغَتْ يدُه ممَّا ادَّخر، فلقيَ من مودَّة الشَّيخ محمد عبده وبرِّه الخفيِّ ما حبَّب إليه المقامَ بمصر، فأقامَ وأصيبَ بمرضٍ ذهبَ ببصره إلاَّ قليلاً، ومات محمد عبده، فعاشَ في ضَنكٍ يستُرُه إباءٌ وشَمَمٌ إلى أن توفّيَ بمصر الجديدة".
اهــقال ربيع: تدبَّر يرعاك الله قولَه: "فعاشَ في ضَنكٍ يستُرُه إباءٌ وشَمَمٌ إلى أن توفيَ بمصر الجديدة"؛ فهذه العبارةُ على اختصارها وافقَت هوًى في الفؤاد، وكِدت أتمايلُ لها إعجابًا وطربًا واستحسانًا، وإنَّ من البيانِ لسحرًا، فهذه الموسوعةُ مليئةٌ بمثل هذه العبارات النَّثرية الرَّائعة التي تستحق الجمع والتَّنسيق والتَّصنيف بين دفَّتَي كتاب، رحم الله العلاَّمة الزِرِكلي وغفر الله ما كان منه من سهوٍ أو خطأ أو نسيان، والكمال لله سبحانه.
• طالعتُ كتاب: "حياة الحيوان"؛ لكمال الدِّين محمَّد بن موسى الدَّمِيري، فاكتشفتُ أنَّ كثيرًا من الحيوانات أَرقى من كثير من البشر ولا فخر!فالأسدُ مثلاً قال عنه: "كانَ إذا جاعَ ساءَ خُلُقه!".مفهوم المُخالفة: فإن كان غيرَ ذلك فهو حَمل ودِيع لا يعتدي على أحد من مخلوقات الله، أمَّا المترفون المنافقون من أبناء جِلدتنا، فإنَّ الشِّبَع لا يزيدهم إلا كبرًا وغطرسةً وظلمًا واعتداءً على حقوق العباد المستضعفين!وقد أحسنَ أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان حينَ صنَّفَ رسالة بعنوان: "تفضيلُ الكلاب على كثيرٍ ممن لبِسَ الثّياب!".• عشتُ في صحبة الكتب سنينَ عددًا، وقرأتُ بحمد لله ما لا يأتي عليه الحصرُ، ومن هواياتي المفضَّلة في المطالعة قراءة مقدِّمات الكتب؛ لذلك أستطيع القولَ: إنَّني لم أقرأ مقدِّمة أجمل من مقدِّمة: "أدب الكاتب"؛ لابن قتيبة، ومقدِّمة كتاب: "معجم الأدباء" لياقوت الحموي!• وجدتُ بين طلبةِ العلم من لا يفرِّقُ بين ابن هشام المؤرِّخ صاحب: "السِّيرة النَّبوية"، المتوفَّى سنة 213هــ، وبين ابن هشام النَّحوي صاحب كتاب: "مغني اللَّبيب عن كتب الأعاريب"، المتوفَّى سنة 761 هــ؛ المؤرِّخ اسمُه عبدالملك بن هشام، والنَّحوي اسمُه عبدالله بن يوسف!• قديمًا كانَت عندي أزمةُ كتب، والآن أصبحَت عندي أزمة رفوف، وهذا يذكِّرني بما قاله الأديبُ الأريب علي الطنطاوي في ذكرياته: "كنا جياعًا فقدنا الطعام، فلما حضر الطعامُ فقدنا الشهية!".• أوَّل بيتين حفظتُ في حياتي وأنا دونَ العاشرة من عمري، وهما منسوبان لعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه:








كُن ابنَ من شِئتَ واكتَسِبْ أدبًا
يُغْنيك محمودُه عن النَّسبِ


إنَّ الفتى من يقولُ ها أنا ذا
ليسَ الفتى من يقولُ كانَ أبي!







 
كان أحد أخوالي يردِّدهما حين كان يدرسُ في الثانوية، فأعجباني وحفظتُهما سماعًا منه، ومن ذلك الحين وهما في ذاكرتي كالنَّقش على الحَجَر!• تنظيفُ مكتبتي ودفعُ الغبار عن مجلّداتها هوايةٌ من هوياتي القديمة المفضَّلة، بل أشعر وأنا أقومُ بهذا العمل وكأنَّني أنظِّف أحدَ أبنائي بخِرقَة خشِنَة لإزالة فسائل الأوساخِ المتراكمة!• إذَا قرأتُ لكَ نصًّا نثريًّا أو شعريًّا ولم يرُقْني، فلا يَعني هذا أن النَّص قبيحٌ أو سيِّئٌ؛ لأنَّني قد حكمتُ عليه بذوقي، والذَّوقُ - كما هو معلومٌ - لا يَعتمد على أسُسٍ علمية، أو قواعدَ منهجية، بدليل أن قارئًا غيري قد يذهبُ في استحسانه والثَّناء عليه كلَّ مذهب؛ لذلك أقولُ للكاتب والشاعر والأديب: إذا كتبتَ شيئًا ونشرتَه فاستحسنَه قومٌ وذمَّه آخرونَ، فلا ينبغي لك أن تنزعجَ ولا أن تفرطَ في الفرح بما كتبتَ؛ فالأذواقُ تختلفُ، وهذه سنَّة الله في عالم الأدب والفنِّ.• قبلَ أن تخطِّئَ غيرَك في مسألة من المسائلِ يجبُ عليك أن تكون على يقينٍ ودراية بالصَّواب الذي معك؛ لكي لا يسخرَ منك مَن كان له علمٌ أو أَلقى السَّمع وهو أديب!• قرأتُ في بعضِ الكتب: كُنْ بالخيرِ موصوفًا، ولا تَكنْ للخير وصَّافًا؛ فإن الواوَ والرَّاءَ والدَّالَ لا تُشَمُّ منها رائحةَ الورد!• أخطاءُ بعضِ النُّسَّاخ الجَهَلةِ قديمًا كأخطاء المطابع التِّجارية اليوم، لا يسلم كتابٌ من تحريفٍ أو تصحيف أو بتْر!• اشتقتُ إلى رائحة التُّراب الزَّكية، التي كانت تداعبُ خياشِيمَنا الصَّغيرة كلَّما امتزجَت بتلك الأمطارِ الخفيفة النَّدية، في حَيِّنا الشَّعبي القريب من أشجار الزَّيتون والبرتقال الواقفة بشموخٍ على اليمين وعلى اليسار!• حين أحاول الكتابةَ عن شيء دون زيارة الفكرة ومداعبة الخاطرة أفشلُ فشلاً ذريعاً، فأمزّق ما أكتبه وأرميه في سلّة المهملات غير مأسوف عليه..
فالكتابة موهبة وتوفيق من الله، ومن يكتب بطريقة صناعية فلن تجد أثراً في نفسك مما قرأتَ له إلاّ قليلاً!• لو لم تمتلك من الكتب إلاَّ كتاب الله، وتفسير ابن السّعدي، ورياض الصّالحين، وكتب الأديب علي الطّنطاوي كلّها..
لكفاكَ فخرًا وشرفًا واعتزازًا واكتفاءً!• ما أضعفَك أيّها الإنسانُ حين تطيرُ فرحًا لخبرٍ سعيد لا يتجاوز محيطَك المحدود، وما أسخَفَك حينَ تبكي أسفًا وحزنًا لأمرٍ تافه لا ينبغي أن يتجاوزَ الآذان..
وما أقبحَك حين تتشبّعُ بما لمْ تُعطَ لتُحمدَ وتَتَسَرْبَلَ بالثّناء الذي لا يسقيك شربةَ ماء في مكان شديد الحرارة، ولا يغنيك من جوع في يوم ذي مسْغَبة..
(ضعُفَ الطَّالبُ والمَطلوب)!• لا يعرفُ قيمة المراجع العلمية والأدبية، وأمّهات الكتب إلاّ عالم أو أديب أو باحث أو طالب للعلم/ وكم أشتهي أن ألطمَ من يقول لي حين يرى مكتبتي : هل ستقرأ كلّ هذه المجلدات التي تملأ غرفتك ؟! وليته يدري أنّني في إبّان البحث والاستقصاء على مسألة معيّنة قد أحتاج لمكتبة العلاّمة المغربي عبد الله گنون.• ثلاثُ كلمات أتضايقُ منها في اللُّغة العربية: (لكن) التي للاستدراك، و(ليْتَ) التي للتَّمني، و(غَادَر) التي بمعنى تَركَ؛ لأنَّها شبيهة بكلمة (الغَدْر) التي معناها الخيانة والغشُّ والخِداع!• ينبغي للمسلم ألا يكون شخصيةً هامشيَّة لا قيمة لها على مسرح الحياة، ويجب عليه أن يقوم بإتقان دَوره النَّافع لأمَّته ما وسعه الإتقان، وليجتهِد في ذلك ما وسعه الاجتهادُ!• علَّمتني الحياةُ أن الضَّعفَ البشري يستوي فيه الذَّكرُ والأنثى، البَرُّ والفاجرُ، الملتحي والحليق، المنتقبة والسَّافرة، وهلمَّ جرًّا!• أجملُ حريَّة على الإطلاق حرِّيةُ التَّفكير، فلا أحد يستطيع محاسبتك على ذلك وإن كان تفكيرًا سلبيًّا؛ ما لم تُصرِّح!• عاشرتُ أقوامًا على (النِّت) سنةً ونيِّفًا، فوجدتُهم كالخمر والميسر؛ ضرُّهم أكثرُ من نفعهم!• من تدخَّلَ فيمَا لا يعنيه؛ فلَطْمَةٌ تَكفيه!• أشعــــرُ بالحبِّ في وطنٍ يعجُّ بالكراهية!

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير