عنوان الفتوى : صوم النصف من شعبان.. رؤية شرعية

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

جزاكم الله خيرًا على جهودكم، وجعلها الله في ميزان حسناتكم، سؤالي هو: من فترة قرأت في موقعكم فتوى تفيد بأن الحديث الذي يتكلم عن صيام النصف من شعبان هو حديث ضعيف جدًّا، ولا يحتج به، فعندها نصحت صديقي بهذا الأمر، علمًا أن عددًا من المسلمين هنا لا يصومون إلا رمضان والنصف من شعبان كل سنة فقط، فقال لي صديقي: "إن شيخ الجامع قال لهم أن يصوموا في النصف من شعبان" وقال لي: "يعني كلامك صحيح وكلام الشيخ خطأ!". أنا قلت له: "ربما لا يعلم لأن هنا صيام النصف من شعبان يعتبر عادة منتشرة جدًّا". ثم قال لي: "يجوز الإنترنت خطأ". قلت له: "هذا مركز فتوى يعطيك الدليل والبرهان -والحمد لله-". سؤالي: كيف أستطيع إقناعه أو نصحه؟ علمًا أنه لم يعد يتحدث إليّ إلا نادرًا بعد هذه الحادثة. وكيف أستطيع إقناع الناس بأن فتواكم صحيحة -بإذن الله تعالى-، وتجمع جميع الآراء والراجح منها؛ لأن العديد من الناس يصعب عليّ إيصال المعلومات الجديدة إليه (غير مسألة صيام النصف من شعبان)، وخاصة عند ما تتعارض مع عاداتهم الدفينة، وأحيانًا بعض الذين أنصحهم يغضبون مني بسبب هذا الأمر، فما نصيحتكم؟

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنه لم يثبت في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- القول بصيام يوم الخامس عشر من شعبان، ولا فعله الصحابة الكرام، ولا من تبعهم بإحسان؛ إذ هو أمر محدث، ولو كان خيرًا لفعله من هو خير منّا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. رواه مسلم.

ومن الآثار الواردة فيه: الحديث الذي رواه ابن ماجه، ولفظه: إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها، وصوموا نهارها؛ فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا، حتى يطلع الفجر. أخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة، وقال: موضوع السند.

وقال العلامة الشيخ/ ابن باز: الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام  بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله -عز وجل-: {الْيوْم أكْملْت لكمْ دِينكمْ}، وما جاء في معناها من الآيات. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) ... اهـ.

وقال العلامة ابن عثيمين: صيام النصف من شهر شعبان وردت فيه أحاديث في فضله، وفي فضل قيام الليلة (ليلة النصف)، وفضل يوم النصف أيضًا، لكنها أحاديث ضعفها أكثر أهل العلم، والأحاديث الضعيفة لا تثبت بها حجة، لا سيما في المسائل العملية.

وبناء على ذلك؛ فإن تخصيص يوم النصف من شعبان بالصيام تخصيص ليلة النصف من شعبان بالقيام غير مشروع لعدم صحة الأحاديث الواردة في ذلك عند أكثر أهل العلم، ولم يثبت شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه في فضلها.

أما إذا صام الإنسان ثلاثة الأيام البيض من شهر شعبان (وهي: اليوم الثالث عشر، واليوم الرابع عشر، واليوم الخامس عشر)، فإن هذا لا بأس به؛ لأنه يسن للإنسان أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، والأفضل أن يجعلها في هذه الأيام الثلاثة: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله. اهـ.

وأما الذي ننصحك به فهو: أن تتعرف على الحق بدليله، وتحرص على تعليمه للناس برفق، وتصبر على أذاهم واستغرابهم لما لم  يألفوه؛ فإن الصبر على الأذى في سبيل الله من آكد الأخلاق التي ينبغي للداعية أن يتحلى بها، كما قال تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {لقمان: 17}. قال السعدي: وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه. والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به، من الرفق والصبر، وقد صرح به في قوله: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ. ومن كونه فاعلًا لما يأمر به، كافًّا عما ينهى عنه، فتضمن هذا: تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، وتكميل غيره بذلك بأمره ونهيه. ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ. اهـ.

وبذلك يستكمل المرء الفضائل، وينجو من الخسران، كما قال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {العصر3:1}.

وينبغي أن تحرص على طلب العلم النافع الذي يؤهلك لبيان الحق والترغيب فيه والحض عليه، وينبغي كذلك أن تتحلى بحسن الخلق وجميل العادات ولا تقابل السيئة إلا بالحسنة، فتنال بذلك ثقة ومحبة من حولك وتنقلب الخصومة والعداوة إلى صداقة ومودة، كما قال سبحانه: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {فصلت: 34-35}. قال السعدي: أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ولا ترضيه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق، ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها، هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ. ثم أمر بإحسان خاص له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصلْهُ، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فلا تقابله، بل اعف عنه وعامله بالقول اللين. وإن هجرك وترك خطابك فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، أي: كأنه قريب شفيق. وَمَا يُلَقَّاهَا، أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله؛ فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟ فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه، ليس بواضع قدره، بل من تواضع للّه رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك، متلذذًا مستحليًا له. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {فصلت: 35} لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق. اهـ.

والله أعلم.