عنوان الفتوى : حكم تعلم الشر، وتعليمه

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

قال ابن سعدى رحمه الله فى قوله تعالى (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى) ينصحاه ، و(يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته ، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال ، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة ، فهل يفهم منه أنه يجوز تعليم الناس كيفية فعل الشر والمعاصي ومنها السحر مع نصحهم وتحذيرهم منه ؟

مدة قراءة الإجابة : 12 دقائق

الحمد لله  

أولًا:

السحر في نظر الشريعة شرٌ كله، باعتبار الطريق الموصلة إليه، وباعتبار قصد الشريعة سد هذا الباب بالكلية .

وانظر جواب السؤال رقم : (181342).

 ثانيًا:

أما قوله تعالى:  وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ   البقرة/102.

الصحيح: أن هاروت وماروت مَلكَان ، أذن الله تبارك وتعالى لهما في تعليم السحر ، فتنة وابتلاء لعباده ؛ وأنهما لم يكونا يعلمان أحدا ، ولا يدخلانه تلك الفتنة ، حتى ينصحاه ، ويبينا له خطر ما هو مقدم عليه ، وينهياه عن الكفر بالله ، والعمل بمعصيته .

وقد سبق بيان ذلك مفصلاً بأدلته في جواب السؤال رقم: (285870).

إذًا: فتعليم هذين الملكين للناس كان فتنة واختبارًا من الله لهم، وقد كانا يحذران الناس من تعلم السحر، والعمل به مع ذلك، وليس فيه ديل على جواز تعلم الشر أو تعليمه حتى وإن اقترن بالتحذير منه ، فإن القلوب ضعيفة ، والشبهة خطافة كما يقال.

ومن الواضح في نفس القصة: أن الله تعالى إنما قدر ذلك ، وأرسل الملكين به : اختبارا ، وفتنة لعباده ، كما يختبرهم سبحانه بخلق إبليس ، وتقدير الشرور والمعاصي، في الكون الذي يعيشون فيه ؛ وليس معنى ذلك : أنه أباح لهم أن يتبعوا إبليس ، ولا أنه شرع لهم العمل بالمعاصي .

بل في نفس القصة بيان أن الملكين كانا ينصحان الراغب في الدخول في هذه الفتنة ، ويبينان له ما شرعه الله في حقه ، وأمره به ؛ فيقولان له : إنما نحن فتنة ؛ إي : ابتلاء، واختبار في حقك ، هل تطيع، أم تكفر؟

قال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله :

" وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر : والفتنة: الِابْتِلَاء. وَمِنْه يُقَال: فتنت الذَّهَب فِي النَّار. أَي: اختبرته، ليتبين الْجيد من الرَّدِيء.

فَإِن قيل: مَا معنى إِنْزَال السحر على الْملكَيْنِ، وَمَا معنى تَعْلِيم السحر من الْملكَيْنِ، وَكِلَاهُمَا مستبعد؟ !

قيل: أما إِنْزَال السحر: بِمَعْنى التَّعْلِيم والإلهام ؛ يَعْنِي : عُلما وألهما السحر.

وَقيل: هُوَ حَقِيقَة الْإِنْزَال، وَهُوَ إِنْزَال هَيْئَة السحر، وكيفيته؛ لِيَنْتَهُوا عَنهُ .

وَأما تَعْلِيم السحر من الْملكَيْنِ: بِمَعْنى الْإِعْلَام. وَمثله قَول الشَّاعِر:

 تعلم أَن بعد الغي رشدا * وَأَن لهَذِهِ الغبر انقشاعا

يعْنى: اعْلَم.

وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة التَّعْلِيم .

ثمَّ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا يعلمَانِ كَيْفيَّة السحر، لِيَنْتَهُوا عَنهُ ؛ كَانَ الرجل يأتيهما فَيَقُول: مَا الَّذِي نهى الله عَنهُ؟ فَيَقُولَانِ: الشّرك. فَيَقُول: وَمَا الشّرك؟ فَيَقُولَانِ: كَذَا وَكَذَا.

ويأتيهما آخر فَيَقُول: مَا الَّذِي نهى الله عَنهُ؟ فَيَقُولَانِ: السحر. فَيَقُول: وَمَا السحر فيعلمانه كَيْفيَّة السحر ، لينتهي عَنهُ، وَكَذَا فِي كل الْمعاصِي.

وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه تَعْلِيم ابتلاء، سلطهما الله على تَعْلِيم السحر ، ابتلاء للنَّاس،  حَتَّى إن كل من تعلم ، واعتقد ، وَعمل بِهِ : كفر. وَمن لم يتَعَلَّم ، وَلم يعْمل بِهِ؛ لم يكفر.

وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: إِنَّمَا نَحن فتْنَة أَي: بلية فَلَا تكفر أَي: لَا تتعلم السحر. فتعمل بِهِ؛ فتكفر." انتهى، من "تفسير السمعاني" (1/117-118) .

وقال الشيخ السعدي رحمه الله :

وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ أي: بتعلم السحر، فلم يتعلمه، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بذلك.

يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر.

وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى ينصحاه، ويَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ، أي: لا تتعلم السحر ، فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته .

فتعليم الشياطين للسحر: على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه ، وهو سليمان عليه السلام .

وتعليم الملكين : امتحانا ، مع نصحهما ، لئلا يكون لهم حجة.

فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين، والسحر الذي يعلمه الملكان، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين، وكل يصبو إلى ما يناسبه." انتهى، من "تفسير السعدي" (61) .

يقول الشيخ ابن باز: " الكتب التي تعلم السحر يجب إتلافها، والقضاء عليها، ولا يجوز تعلمها، ولا العمل بها فيها، وهذا الحديث الذي ذكره السائل لا أصل له، بل هو حديث غير صحيح: (تعلموا السحر ولا تعملوا به)، هذا باطل ما له أصل. هذا الحديث الذي ذكره السائل ليس له أصل، والذي عليه أهل العلم أنه لا يجوز تعلم السحر، ولا العمل به، بل يجب الحذر من ذلك، لأن تعلمه وتعليمه كفر، لأنه لا يتوفر إلا بعبادة الشياطين من دون الله، والاستغاثة بالجن ونحو ذلك، والله ذكر عن الملكين في سورة البقرة، قال -سبحانه-: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ[البقرة: 102]، فبين أن تعلمه كفر، وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، فدل ذلك على أن تعلم السحر من أمور الكفر، فالواجب على كل مسلم أن يحذر ذلك، وأن لا يتعلم الكفر والسحر، وأن لا يذهب إلى السحرة والكهنة والمنجمين، ولا يجوز له سؤالهم ولا تصديقهم، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) رواه مسلم في الصحيح، وإن لم يصدقه قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء) ولم يقل فصدقه، فدل ذلك على أن سؤاله لا يجوز، وتصديقه أكبر في الإثم، فلا يسأل ولا يصدق، وقال أيضاً -عليه الصلاة والسلام-: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-). فلا يجوز إتيان الكهان وهم يدعون علم الغيب، ولا العرافون الذين يدعون علم الغيب بالمقدمات التي يدعونها، وأشياء يدعونها كل هذا باطل، فلا يجوز سؤالهم، ولا يجوز تصديقهم، ولا يجوز شرح الكتب التي فيها علومهم، بل يجب إتلافها وإحراقها " انتهى من "فتاوى نور على الدرب، لابن باز"(3/ 333).

ثالثا :

لا شك أن تعليم السحر، محرم ، لا خلاف بين أهل العلم في تحريمه، وإنما الخلاف في أن تعلمه ، وتعليمه : كفر ، أو ليس بكفر .

وأما تحريم ذلك : فلا إشكال فيه . وهو واضح من نفس القصة المذكورة، كما سبق تقريره.

ومثل ذلك أيضا: تعلم أسباب الشر، والمعاصي، وتعليم ذلك : لا شك أنه محرم؛ لما كان وسيلة إلى المعصية، والعمل بالفساد في الأرض .

وقد روى مسلم في صحيحه (2674) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:  مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا  .

وتعلم الشر والمعاصي، لا شك أنه دعوة بالقول ، والفعل، إلى الشر والمعاصي ، والفساد؛ فكان إثم من تعلم ذلك ، أو علمه ، أو عمل به : على ذلك المعلم الأول لهم ، وهكذا دواليك: كل من علم غيره أسباب المعاصي، والفساد : كان عليه إثمه ، وإثم من عمل بها من بعده ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا .

والواجب على العبد الناصح لنفسه ، الحريص على دينه : أن ينأى بنفسه ودينه عن أسباب الفتنة ، والشر والفساد ، لا أن يتعاطى ذلك ، أو يتعلمه ، أو يعلمه لغيره ، فإن القلوب ضعيفة ، والشبه خطافة ، وكم ممن عرض نفسه للفتنة ، واثقا بنفسه ، راكنا إليها ، حتى إذا دخل فيها ، وأمسك بأسبابها ، أمستك به ، وعلق فيها ، فلم يستطع من خروجها ، ولا لنفسه نجاة ، وكان كمن قال الله تعالى فيهم ، لما خالفوا أمر الله ورسوله ، وتركوا الجهاد مع رسوله :  وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ  التوبة/49

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : 

" السنة في أسباب الخير والشر أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة ، من الأعمال الصالحة : ما يجلب الله به الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة ، من العبادات : ما يدفع الله به عنه الشر.

فأما ما يخفى من الأسباب : فليس العبد مأمورا بأن يتكلف معرفته، بل إذا فعل ما أمر، وترك ما حظر، كفاه الله مؤنة الشر، ويسر له أسباب الخير: ومن يتق الله يجعل له مخرجا [الطلاق: 2] ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا [الطلاق: 3] "، انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية(1/ 60).

والله أعلم 

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...