عنوان الفتوى : حول الإنجيل والتوراة وما فيهما من تحريف وحقائق

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

من خلال متابعاتي لمناظرات الشيخ ديدات، فهمت أمورا عن الكتاب المقدس عند النصارى، فالكتاب المقدس عندهم ليس هو الإنجيل الذي نزل على عيسى عليه السلام، ولكن الكتاب المقدس الذي هو إنجيل متى، ويوحنا، ومرقس، ولوقا. ما هو إلا مذكرات لهؤلاء الرجال الذين يسمون برسل المسيح، لسيرة المسيح، كما يروونها. وهذا ما يقابل في الإسلام كتب السيرة، أو السنة، وليست ما يقابل القرآن. إذن فما هو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، والذي يقابل القرآن؟ وهل هو موجود الآن؟ وإن لم يكن موجودا فماذا حل به؟ وهل هذا ينطبق على التوراة الحالية أيضا؟

مدة قراءة الإجابة : 11 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالفقرة الأولى من السؤال صحيحة، فما يعرف بالكتاب المقدس عند النصارى، ليس هو الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على المسيح عيسى عليه السلام! فلا يمكن أن يقابل بالقرآن عند المسلمين، ولكنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يقابل بكتب السيرة، أو السنة عند المسلمين! وإنما هو خليط ممزوج مما ينسب إلى الله تعالى، وإلى المسيح، وإلى أتباع المسيح! بغض النظر عن صحة هذه النسبة.

 وقد بين ذلك الشيخ أحمد ديدات ـ رحمه الله ـ في كتابه (هل الكتاب المقدس كلام الله) فقال: لا نتردد نحن المسلمين، في التسليم بوجود ثلاثة أنواع من الشواهد في الكتاب المقدس، وهو شيء لا يحتاج إلى تدريب مسبق، وهذه الأنواع هي:

1 - تستطيع أن ترى في الكتاب المقدس ما يمكن وصفه بأنه: كلام الرب.
2 - كما تستطيع أن تتبين ما يمكن وصفه بأنه: كلام نبي الرب.

3- وما هو واضح أكثر، هو ما تتكون منه معظم محتويات الكتاب المقدس من تقارير لشهود عيان، أو غيرهم ممن كتبوا ما كانوا يسمعون عنه، وهو ما نستطيع أن نسميه: كلام المؤرخ.

ولا تتعب نفسك بالبحث عن الأمثلة لهذه الأنواع الثلاثة في الكتاب المقدس، فإليك السطور الآتية التي ستوضح لك ما أعنيه بالضبط:

النوع الأول:

ا ــ (( أُقيم لهم نبياً ... وأُلقي كلامي في فيه .... فيخاطبهم بجميع ما آمره به )). ( سفر تثنية الاشتراع 18:18).

ب ــ (( أنا أنا الرب، ولا مخلص غيري )) (نبوءة أشعيا 43:11).

ج ــ (( توجهوا إلي، فأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض؛ فإني أنا الله وليس آخر )) . ( نبوءة أشعيا 45 :22 ).

لاحظوا ضمير المتكلم في الجمل السابقة .. وبدون أي صعوبة ستلاحظون أنها تبدو ككلام الرب.

النوع الثاني:

أ ــ (( ... صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي، إيلي لما شبقتني ، أي إلهي إلهي لماذا تركتني )) . ( إنجيل متى 27 : 46 ) .

ب ــ ((أجابه يسوع: أن الوصايا كلها، اسمع يا إسرائيل: إن الرب إلهنا رب واحد )) ( مرقس 12: 29 ) .

ج ــ (( فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحاً، إنه لا صالح إلا الله وحده )) . ( مرقس 10 :18 ) .

حتى الطفل يستطيع أن يؤكد هنا أن : (( صرخ يسوع ))، (( أجابه يسوع ))، (( فقال له يسوع )) هي كلمات تنسب إلى صاحبها، وهو رسول الرب.

النوع الثالث: (( فنظر عن بعد شجرة تين ذات ورق، فدنا ( عيسى ) إليها، لعله يجد عليها شيئاً. فلما دنا (عيسى ) لم يجد ( عيسى ) إلا ورقا ...)) . ( مرقس 11 :13).

ومعظم الكتاب المقدس يتكون من هذا النوع الثالث، وهي كلمات شخص ثالث. فإذا لاحظت الضمائر الموضحة تجد أنها ليست من كلام الرب، أو نبيه بل كلمات مؤرخ.

 وبالنسبة للمسلم، فإنه من السهل عليه أن يفرق بينها؛ لأنه يجدها في دينه أيضا.

ولكن من بين كل الأديان، فالمسلم أكثر حظاً من غيره، فكتبه منفصلة كل على حدة:

ـــ أولاً: النوع الأول - وهو كلام الله - وموجود في القرآن الكريم.

ـــ ثانياً: النوع الثاني - وهو كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مسجل في كتب الأحاديث.

ـــ ثالثاً: النوع الثالث - وأثر هذا النوع محفوظ في أجزاء مختلفة من التراث الإسلامي، وهي بأقلام علماء وأئمة المسلمين .

ولكن المسلم يحفظ كتبه في مجلدات مختلفة، وهو لا يساوي بينها فكل له مكانته. ولكن الكتاب المقدس يحوي أنواعا مختلفة من النثر، فهي تجمع بين النوع المحرج، والنوع الدنيء، والنوع الفاحش - وكلها مجموعة بين جلدتي كتاب واحد - وبذلك يكون من سوء حظ النصراني، أن يضطر للاعتراف بكل ما جاء في هذا الكتاب بأنه في مكانة عقائدية واحدة. اهـ.
وأما التساؤل عن الإنجيل الصحيح الذي أنزله الله بالفعل على عبده، ورسوله عيسى عليه السلام، فلا مطمع في الجواب عنه، فقد تولى النصارى بأنفسهم إعدام، وإحراق كل الأناجيل التي لا تعترف بها الكنيسة!

 قال الدكتور منقذ السقاف في كتابه (هل العهد الجديد كلمة الله): تساءل المحققون طويلاً عن إنجيل المسيح الذي أنزله الله على عيسى، ذلكم الإنجيل الذي يؤمن به المسلمون، والذي تذكره الأناجيل كثيراً. لكن الإجابة النصرانية هي صمت مطبق، وتجاهل لوجود هذا الإنجيل، فنقطة البدء عندهم للإنجيل، أو العهد الجديد تبدأ من الحواريين، وهم يسطرون الرسائل، والأناجيل لكن رسائل بولس التي ألفت في النصف الثاني من القرن الأول، تتحدث في نصوص كثيرة عن إنجيل المسيح، ولا تذكر شيئاً عن الأناجيل الأربعة التي لم يكن مرقس - أول الإنجيليين - قد خط شيئاً منها، إذ أن بولس - وله أربعة عشر رسالة في العهد الجديد - قتل سنة 62م، بينما ألف مرقس أول الأناجيل عام 65م، ثم تتابعت العشرات من الأناجيل بعد ذلك، وهي تشير أيضاً إلى إنجيل المسيح - عليه السلام - أو إنجيل الله. اهـ.
ثم ذكر نصوصا من الكتاب المقدس عندهم، تتحدث عن إنجيل المسيح، ثم قال: وقد تهرب عموم النصارى من الإقرار بوجود إنجيل حقيقي، هو إنجيل المسيح، فقالوا: لم ينزل على المسيح شيء، بل الإنجيل هو أقواله الشخصية، وقد سطرها الإنجيليون. وهذا بالطبع متسق مع قولهم بألوهية المسيح، إذ لا يليق بالإله أن يؤتى كتاباً، فهذا حال الأنبياء. لكن يردُّ هذه الدعوى ذكر النصوص التي تحدثت عن وحي الله إلى المسيح، منها قوله: " أنا أتكلم بما رأيت عند أبي" (يوحنا 8/ 38). وكذا قوله مثبتاً نزول الوحي عليه، بما أسماه وصية الله التي أعطاه الله إياها: "لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية: ماذا أقول، وبماذا أتكلم، وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية. فما أتكلم أنا به، فكما قال لي الآب، هكذا أتكلم" (يوحنا 12/ 49 - 50)، ومثله قوله: " أتكلم بهذا كما علمني أبي " (يوحنا 8/ 28) ...

ولنا أن نتساءل إن كان هذا الإنجيل مما أمرت الكنيسة بإحراقه، ضمن الأناجيل الكثيرة التي حرمتها، وأمرت بحرقها في مجمع نيقية، لكنا لا نجد لسؤالنا جواباً إلا إنكار وجود هذا الإنجيل، وقد ثبت لدينا وجوده. فكثيراً ما نسمع مطالبة النصارى للمسلمين أن يظهروا إنجيل المسيح الذي يدعونه، فيجيب العلامة منصور حسين في كتابه الفريد "دعوة الحق بين المسيحية والإسلام": "إنه منذ فجر المسيحية، وبعد رفع المسيح، وقبل الإسلام كان هناك العديد من الأناجيل، قبل المسيحيون أربعاً منها فقط .. والباقي - كما وجدنا - طوردت وأحرقت، والذين طاردوها هم المسيحيون أنفسهم وأحرقوها، وليس المسلمون، وليدلنا سيادته (أي القمّص باسيليوس، وهو أحد المرددين لهذه العبارة) عليها، وحينئذ أدله من بينها على الإنجيل الصحيح، أما أن يحرقها المسيحيون، ثم يطالبون المسلمين ... فهذا غير معقول ". إذاً قد اختفى إنجيل المسيح، وعهدة إحضاره باقية في ذمة النصارى، لا المسلمين. اهـ.
وأما التوراة فالأمر فيها يختلف شيئاً ما، إذ إن اليهود والنصارى يؤمن كلاهما بنبوة موسى عليه السلام، فليس هو عند أيٍّ منهما إلهاً، أو ابن إله! ولا نعني بهذا صحة نسبة التوراة الحالية لموسى عليه السلام، ولكن نعني أن طريقة التحريف، وأسبابه تختلف في التوراة عن الإنجيل, ويمكنك الرجوع في ذلك إلى الكتب المتخصصة في هذا المجال، ومن أيسرها كتاب الدكتور منقذ (هل العهد القديم كلمة الله). وكذلك رسالة (الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم عرض ونقد) للدكتور محمود قدح، المنشور في العدد (111) من مجلة الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة.

والله أعلم.