حديث: جاء حبر من أحبار اليهود
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
حديث: جاء حبر من أحبار اليهودعن ثَوْبَانَ رضي الله عنه، مَوْلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ قَائِماً عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ! فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا.
فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلاَ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "إِنَّ اسْمِي محمد الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي" فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟" قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، فَنَكَتَ رَسُولُ اللّهِ بِعُودٍ مَعَهُ.
فَقَالَ: "سَلْ" فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجَسِرِ" قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: "فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ" قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ" قَالَ: فَمَا غَدَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ: "يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا" قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً" قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، إِلاَّ نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ.
قَالَ: "يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟" قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ.
قَالَ جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ؟ قَالَ: " مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، فَعَلاَ مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ، أَذْكَرَا بِإِذْنِ الله، وإذا عَلا مَنِيُّ المَرْأَةِ مَنَيَّ الرَّجُلِ، آنَثَا بِإِذْنِ اللهِ " فَقَالَ اليَهُودِي: لقَدْ صَدَقتَ.
وإِنَّكَ لنَبِيٌّ، ثمَّ انْصَرَف فذَهَب.
فقال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم " لَقَد سَأَلَنِي هَذَا عَنْ الذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَالِي عِلْمٌ بِشَيءٍ مِنْهُ، حَتَّى أَتَانِيَ اللهُ بِهِ" رواه مسلم.
ألفاظ الحديث:
• (حِبْرٌ): بفتح الحاء وكسرها لغتان صحيحتان مشهورتان والحبر هو العالم.
• (فَنَكَتَ رَسُولُ اللّهِ بِعُودٍ مَعَهُ): نكت بفتح النون والكاف ومعناه: يخط العود في الأرض ويؤثر به فيهاوهذا يفعله غالباً من يفكر في شيء.
• (هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجَسِرِ):الجسر بفتح الجيم وكسرها لغتان صحيحتان مشهورتان والمراد بالجسر هنا الصراط.
• (فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً): أي من أولهم عبوراً.
• (فَمَا تُحْفَتُهُمْ): التحفة هي ما يُهدى إلى الرجل ويخص به ويلاطف.
وقيل: التحفة طرف الفاكهة [انظر: " النهاية" ص 105، مادة (تحف)].
• (زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ): النون جمعه نينان وأنوان، والنون بضم النون الأولى وهو الحوت ولقب يونس عليه السلام لقصته مع الحوت بذي النون، وزيادة كبد النون معناها طرف كبد الحوت وهو أطيبها.
وجاء عند مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه يأكل من هذه الزيادة سبعون ألفاً، وسيأتي الحديث بإذن الله.
• (فَمَا غَدَاؤُهُمْ): رويت هذه الكلمة على وجهين: أحدهما: بفتح الغين وبالدال المهملة، والثاني: (غِذاَؤهم) بكسر الغين وبالذال المعجمة، وصحح القاضي عياض الرواية الأولى وذكر أنها رواية الأكثرين.
• (مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً): جماعة من أهل اللغة والتفسير على أن السلسبيل اسم للعين، وقال مجاهد وغيره: هي شديدة الجري، وقيل: هي السلسلة اللينة.
• (أَذْكَرَا بِإِذْنِ الله): أي كان الولد ذكراً.
• (آنَثَا بِإِذْنِ اللهِ): أي كان الولد أنثى.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في الحديث دلالة على أن الأرض تبدل غير الأرض والسماوات كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [سورة إبراهيم: 48]، واختلف في معنى تبديل الأرض غير الأرض على أقوال أشهرها:
قيل: إن الأرض نفسها التي عليها الناس اليوم ولكن تُبدَّل وتُغيَّر صفاتها وأحوالها وتُسوَّي مرتفعاتها، ورجح القرطبي [انظر: " المفهم " (1/ 573)]: أن التبديل هو للأرض كلها بإزالة هذه الأرض والإتيان بأرض أخرى.
وجاء وصف هذه الأرض في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " يحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاء عفراء كقرصة النقي ".
قال سهل أو غيره: " ليس فيها معلم لأحد " [والعفراء: هي التي ليست بناصعة البياض، والنقي بفتح النون وكسر القاف أي الدقيق النقي من الغش والنخال] وسيأتي بيان هذا الحديث في بابه بإذن الله.
والأظهر والله أعلم أن الحشر هنا سيكون بعد الصراط لأن تبديل الأرض غير الأرض سيكون حينما يكون الناس على الصراط ويدل على ذلك حديث الباب وحديث عائشة - رضي الله عنها -عند مسلم قالت: سألت رسول الله رضي الله عنه عن قوله - عزّ وجل -" يوم تبدل الأرض غير الأرض " فأين يكون الناس يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: " على الصراط " وسيأتي الحديث عنه في بابه بإذن الله تعالى.
الفائدة الثانية: في الحديث بيان صفة مني الرجل والمرأة وهذا موطن الشاهد من حديث الباب وسبق الحديث عن صفة المني وفي هذا الحديث زيادة وهي أن مني الرجل والمرأة أيهما علا كان الإذكار والإيناث فإذا علا ماء الرجل على ماء المرأة كان المولود ذكراً وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان المولود أنثى وهذا إعجاز آخر غير الإعجاز الذي سبق في الحديث الذي قبله وهو إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة كان الشبه للرجل وبالعكس يكون الشبه للمرأة، ويتحصل عندنا أن الأحاديث في هذا تنقسم إلى قسمين:
الأول: أحاديث فيها ذكر التذكير والتأنيث وأنه مرتبط بالعلو ومنها حديث ثوبان رضي الله عنه حديث الباب.
والثاني: أحاديث فيها ذكر الشبه وأنه مرتبط بالسبق أو بالعلو ومنها الأحاديث السابقة حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وحديث أنس رضي الله عنه وحديث عائشة - رضي الله عنها -.
وقد تناول الطب الحديث هذا الإعجاز بدراسات وأبحاث منها كتاب للشيخ عبدالرشيد قاسم [انظر: اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية) وساق الأحاديث ص (41)]، ذكر فيه توجيهات العلماء المتقدمين ومن ثم تفسيرات المعاصرين وذكر خمسة أقوال وناقشها ورجح الخامس وهو.
أن ماء الرجل قلوي وماء المرأة حمضي فإذا التقى الماءان وغلب ماء المرأة وكان الوسط حامضياً تضعف حركة الحيوانات التي تحمل خصائص الذكورة وتنجح الحيوانات المنوية التي تحمل خصائص الأنوثة في تلقيح البويضة فيكون المولود أنثى والعكس صحيح، ولا زال الطب الحديث يتناول هذا الإعجاز في دراسات وذكروا تقسيمات عديدة في ذلك نطق بهذا الإعجاز الذي لا ينطق عن الهوى قبل أربعة عشر قرناً.
الفائدة الثالثة: قول اليهودي للنبي صلّى الله عليه وسلّم " صدقت وإنك لنبي " فيه دلالة على أن مجرد التصديق من غير التزام للشريعة والعمل بما جاء فيها لا ينفع لأنه لم يُحكم لهذا اليهودي بإسلام، وفي الحديث فوائد أخرى في التسمية بالاسم الذي سماه اهله به وفي فضيلة المهاجرين وفي طعام أهل الجنة وشرابهم وغيرها من الفوائد ستأتي بإذن الله في مواضعها المناسبة.