عنوان الفتوى : استفسار متعلق بالجمع والترجيح بين الأدلة
أود الاستفسار حول الأحاديث التي تحدث فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين تكلموا في المهد ، حيث استعمت لمحاضرة للشيخ الحويني حولها، وذكر أن هناك حديث حدد فيه النبي عليه الصلاة والسلام الذين تكلموا في المهد في ثلاثة ، وآخر فيه أكثر من ذلك ، مع أنه صلى الله عليه وسلم استعمل أداة الحصر (إلا)، وشرح الشيخ الأحاديث إلى أن خلص أنه ولو أن النبي عليه الصلاة والسلام استعمل أداة الحصر (إلا) فإنه لو صح عنه عليه الصلاة والسلام حديث فيه أنه تكلم في المهد رضيع آخر غير المذكورين في الحديث الأول لسلمنا أنه تكلم ، سؤالي : كيف يكون ذلك وقد حصر النبي عليه الصلاة والسلام الأمر بأداة الحصر إلا ؟ ومما اطلعت عليه أنه إذا لم نوفق في درء التعارض عن نصين متعارضين ظاهريا إما بالجمع ، أو النسخ ، أو الترجيح فإننا نتوقف ، سؤالي : في هذا الأمر الذي نتوقف فيه ، من الممكن أن يكون مدخلا للشيطان على ضعاف الإيمان فيوسوس لهم ، ويشككهم في الدين، وأيضا في هذا الأمر الذي نتوقف فيه يمكن أن يستغله من يريد الطعن في دين الله ، ويقول : كيف يكون حقا ، وهناك تعارض فيه لا وجه لدرئه ؟ أرجو توضيح هذه النقطة. وذكر الشيخ أن أوجه الترجيح مائة ، وبالتالي لا يوجد نصان لا يمكن الترجيح بينهما بوجه من تلك الأوجه ، فكأنه وضعت أوجه الترجيح لدرء التعارض كيفما كان ، لكن هناك حلقة مفقودة بالنسبة لي، هل هي أننا نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن أن يوجد تناقض في الدين الذي جاء به لأنه الدين الحق، ومن ثم نبني أوجه الترجيح ؟
الاجابة
الحمد لله
أولا:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلَّا ثَلاَثَةٌ:
عِيسَى.
وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، كَانَ يُصَلِّي، جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الغُلاَمَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لاَ، إِلَّا مِنْ طِينٍ.
وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ، - قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ - ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الأَمَةُ يَقُولُونَ: سَرَقْتِ، زَنَيْتِ، وَلَمْ تَفْعَلْ
رواه البخاري (3436) ، ومسلم (2550).
وما روي من أن هناك من تكلم في المهد غير هؤلاء الثلاثة، فهي روايات لا تقوى على معارضة هذا الحديث الصحيح.
وقد سبق بسط ذلك في الجواب رقم (202339).
ثانيا:
سبيل المؤمنين أمام النصوص الصحيحة التي ظاهرها التعارض هو محاولة الجمع بينها.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" والمقرر في علم الأصول وعلم الحديث: أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين، وجب الجمع بينهما إجماعا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى؛ لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين.
وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن؛ لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى " انتهى، من "أضواء البيان" (5 / 161).
فإذا تعذّر الجمع: وجب الترجيح ، كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
والجمع بين النصوص والتوفيق بين معانيها، أو الترجيح بينها، ليس هو من باب التكلّف ، ونصرة الشرع بالافتراء والتخرص؛ فهذا ليس من نهج الشرع، فالله سبحانه وتعالى نهى عن هذا.
قال الله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ سورة ص/86.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) يقول: وما أنا ممن يتكلف تخرصه وافتراءه، فتقولون: ( إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ) و ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ).. " انتهى، من "تفسير الطبري" (20 / 150).
ولهذا تجد أئمة أهل العلم ينكرون التكلف في طريقة الجمع والتوفيق بين النصوص التي ظاهرها التعارض، ولا يقبلون إلا الجمع المبني على أصل علمي.
فالجمع أو الترجيح بين النصوص هو نتيجة يتوصل إليها العالم، والفقيه، بعد بحث علمي مبني على قواعد وأصول ، وليس نتيجة عاطفة نصرة الإسلام.
وتنصيص أهل العلم على أن هناك مائة مرجح أو أكثر؛ فهذه المرجحات ليست أمورا اقترحوها، وإنما هي أمور وصلوا إليها بالاستقراء والبحث العلمي ، وليس بمجرد الهوى فالقول بغير علم معلوم حرمته.
قال الله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإسراء/36.
ثالثا:
تعذر الجمع أو الترجيح في بعض الحالات : ليس سببه أن التعارض حقيقي بين نصوص الوحي، فمازال الوحي يتحدى الكفرة من يوم نزوله إلى قيام الساعة؛ حيث قال الله تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا النساء /82.
وليس هو موقفا عاما ، أيضا ، يقف فيه جميع المجتهدين إزاء نص محدد ، بل هو موقف يعرض للفقيه أو للمجتهد أحيانا ، في بعض النصوص ، التي يكون عند غيره من العلم والبيان ما يسمح له بتخطي حالة "الوقف" ؛ فالوقف ، إذا ، حالة نسبية ، تنتج عن قصور في علم الباحث أو فهمه، في النازلة المعينة ، وهذا لا يخلو منه بشر ؛ لكن الأمة لا تجمع على ذلك الوقف والتعارض، بل ما غاب عن عالم ، أدركه غيره ، وهكذا .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة ...
وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه، ليس أحدهما ناسخا للآخر، فهذا لا يوجد أصلا، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق، والآفة من التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معا، ومن هاهنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع، وبالله التوفيق " انتهى. "زاد المعاد" (4 / 137 – 138).
ومن المعلوم أن العلوم والفهوم بين الناس تتفاوت؛ فلذا مسألة التوقف بين نصين متعارضين هي مسألة نسبية ، فقد يتوقف بعض أهل العلم دون بعض، وقد يتوقف العالم فترة حتى يزداد علما بهذه النصوص وفهما لها فيظهر له وجه الجمع أو الترجيح.
أما افتراض أن الأمة كلها تتوقف عن الجمع أو الترجيح بين نصين ظاهرهما التعارض، فهذه مسألة نظرية لا وجود لها في الواقع.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" كل من تحقق بأصول الشريعة؛ فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كل من حقق مناط المسائل؛ فلا يكاد يقف في متشابه؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة، فالمتحقق بها متحقق بما في نفس الأمر؛ فيلزم أن لا يكون عنده تعارض.
ولذلك لا تجد ألبتة: دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما ، بحيث وجب عليهم الوقوف؛ لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ؛ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم " انتهى، من "الموافقات" (5 / 341).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري |
---|
استفسار متعلق بالجمع والترجيح بين الأدلة |