عنوان الفتوى : حكم طلب الشفاعة من الشهيد بأن يقول: إن استشهدت وشفعك الله فاشفع لي
قرأت في موقعكم فتاوى متعددة حول الشفاعة ، والذي أود أن أعرفه هو : هل قول الرجل للمجاهد الحي أو العالم الحي الحاضر : "إذا أذن الله لك اشفع لي" يعتبر من الشرك الأكبر ، أما بدعة ؟ فبعض الناس يكفرون الناس بهذا القول ، قائلين بأن الشفاعة ملك لله لا تطلب إلا منه ، ومن قال : " إذا أذن الله لك اشفع لي ، أو إذا قبل الله شهادتك اشفع لي" قالوا :من قال هذا وقع في الشرك الأكبر .
الحمد لله
أولا:
الشفاعة لله وحده كما قال: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ الزمر/44 .
وذلك أن الشفاعة لا تتم لأحد إلا بثلاثة شروط:
1-رضا الله عن الشافع، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا طه/109 .
2-رضا الله عن المشفوع له، كما قال: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ الأنبياء/28 .
3-إذن الله للشافع، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ البقرة/256 .
فلهذا كانت الشفاعة كلها لله، لأنها لا تكون إلا بإذنه ورضاه.
ثانيا:
ومن المعلوم الثابت أن المؤمنين يشفعون في إخوانهم من المؤمنين، من أهل النار، ويشفعهم الله فيهم ، ويأذن لهم في إخراج إخوانهم الذين يعرفونهم بالإيمان ، من النار.
روى البخاري (7439) من حديث أبي سعيد الخدري في الشفاعة: فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ المُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا .
فالمؤمن يشفع لأخيه المؤمن، بعد إذن الله تعالى له، وإقداره على الشفاعة، مع رضاه عن الشافع والمشفوع له.
ثم، من المعلوم الثابت أيضا : أن الناس يقولون للنبي يوم القيامة: اشفع لنا عند ربك.
وانظر للفائدة جواب السؤال رقم : (187506)، ورقم : (284331) .
لكن مع ذلك : لا يجوز طلب الشفاعة من ميت أو غائب، كأن يقول الآن: يا رسول الله اشفعي لي، أو يا علي أو يا حسين، لأن ذلك من دعاء غير الله، وهو شرك ، كما دلت عليه النصوص والإجماع؛ فالشفاعة ملكه سبحانه وتعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات لا يملكون التصرف بعد الموت في شفاعة ولا في دعاء ولا في غير ذلك .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (132624) ، ورقم : (153666) .
وأما الحي ، الحاضر ، فيجوز طلب الدعاء – عموما - منه ، كما يجوز أن يطلب منه ما يقدر عليه .
وعلى ذلك : فلا حرج أن يقول المؤمن لأخيه : ادع الله لي.
ثالثا:
الصورة المسئول عنها وهو قوله لرجل: إن أذن الله لك بالشفاعة يوم القيامة فاشفع لي، تلحق بهذه الصورة؛ لأنها سؤال الحي الحاضر في أمر يقدر عليه في وقته.
ولا يقال: إنه لا يقدر على الشفاعة الآن .
لأنا نقول: السائل لم يسأله الشفاعة الآن التي لا يقدر عليها، وإنما سأله شفاعة معلقة على حصول الإذن والإقدار له يوم القيامة.
فمضمون سؤاله: إن أقدرك الله ، وأذن لك بالشفاعة يوم القيامة؛ فاشفع لي.
ولكن يجب أن يُعلم أن الأمر لا يتم بذلك بحسب، بل لا بد من رضا الله عن هذا السائل كما تقدم، وهذا يوجب التعلق بالله تعالى، واللجوء إليه سبحانه.
ومما يستأنس به هنا: ما روى مسلم (29) عَنْ الصُّنَابِحِيِّ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ قَالَ [أي الصنابحي]: " دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ [أي عبادة]: مَهْلًا، لِمَ تَبْكِي؟ فَوَاللهِ لَئِنْ اسْتُشْهِدْتُ لَأَشْهَدَنَّ لَكَ، وَلَئِنْ شُفِّعْتُ لَأَشْفَعَنَّ لَكَ، وَلَئِنْ اسْتَطَعْتُ لَأَنْفَعَنَّكَ ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلَّا حَدَّثْتُكُمُوه ُ، إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوه ُ الْيَوْمَ، وَقَدِ اُحِيطَ بِنَفْسِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ ".
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "س: لو رأى شخصًا سوف يذهب إلى الجهاد في سبيل الله فقال له: إن استشهدت في سبيل الله اشفع لي؟
ج: هذا يشفع بعد الموت، هذا محله بعد البعث والنُّشور، يطلب منه أن يشفع له وهو حي، يُوصيه وهو حي الآن ؛ لا بأس ، إذا بُعث يوم القيامة.
س: يا شيخ، ما فيها شيء؟
ج: ما فيها شيء" انتهى من "شرح كشف الشبهات" على موقع الشيخ:
http://bit.ly/2SkFwTs
فهذا التصرف لا يعدو أن يكون وصية، يوصي أخاه ويقول: إن شفّعك الله، واحتجت، فاشفع لي.
ولهذا كان قولا جائزا، لا شركا.
لكن يخشى على قائله أن يتعلق قلبه بهذا العالم أو المجاهد، وأن يظن أن الأمر يتوقف على رضا الله عن هذا المجاهد وإذنه له في الشفاعة، ويغفل عن شرط رضا الله عن السائل نفسه.
ثم لمَ يرضى لنفسه أن يكون مقصرا، يأمل في شفاعة غيره فيه، وهو في زمان الإمهال، ويمكنه أن يتعلم، ويجاهد، ويكون من الصالحين.
ولهذا نقول: هذا السؤال ليس شركا، وهو من سؤال الحي الحاضر فيما لو أقدره الله وأذن له، لكن سد هذا الباب أولى، فإن النفوس الجاهلة قد تتعلق بالمخلوق وتنسى الخالق.
وسؤال الحي الحاضر ليس مرغبا فيه في الأصل، كما روى مسلم (1043) عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، قَالَ: " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟ وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟ فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً - وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ " .
فليجتهد المؤمن في تحصيل الطاعات، وفي البعد عن المحرمات، وليجعل سؤاله وطلبه من الله تعالى، وليدع أمر المخلوق، وعليه بمصاحبة الأخيار، فإنه إن زل، ودخل النار، فإن الله قد يشفع فيه إخوانه، كما سبق في الحديث.
والله أعلم.