عنوان الفتوى : الجواب على استشكال في سياق حديث الشفاعة العظمى
أريد أن أسأل عن حديث الشفاعة العظمى، وسؤالي هو: إن مطلع الحديث كان في يوم المحشر، والناس يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستشفعوه في بدئ الحساب ، فيقول له الله : اخرج من النار من كانت صفته كذا ، ومعلوم أن إخراج الموحدين من النار يكون بعد الحساب وليس في يوم المحشر، من ناحية أخرى ، الناس طلبوا منه الشفاعة ببدء الحساب ، بينما هو لم يدع بذلك بل قال : أمتي، وليس في النص ذكر أن الله أمر ببدء الحساب، ثالثا: ظاهر الحديث أن كل الناس طلبوا ذلك منه، بينما هو لما دعى قال: يا رب أمتي، ولم يدع للباقي ، آمل التوضيح .
الحمد لله.
الحديث المقصود هو ما رواه مَعْبَدُ بْنُ هِلاَلٍ العَنَزِيُّ، قَالَ: " اجْتَمَعْنَا ، نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ ، فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ ، فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى، فَاسْتَأْذَنَّا، فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقُلْنَا لِثَابِتٍ: لاَ تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ هَؤُلاَءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ ، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ ، وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِي الآنَ ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ... ) رواه البخاري (7510) ، ومسلم (193).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ ... فَيَأْتُونِّي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! أَدْخِلْ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاب الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ... ) رواه مسلم (194).
وهذا الحديث قد استشكله أهل العلم.
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:
" والعجب كل العجب، من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء ، في أن يفصل بين الناس ، ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى الجزاء ، إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة ، وإخراجهم من النار " انتهى من "شرح الطحاوية" (ص 231).
وجاء في "عمدة القاري" للعيني (25 / 166):
" وأول هذا الحديث ليس متصلا بآخره، وإنما أتى فيه بأول الأمر وآخره ، وفيما بينهما ليذهب كل أمة من كان يعبد، وحديث: يؤتى بجهنم، وحديث ذكر الموازين والصراط وتناثر الصحف ، والخصام بين يدي الرب جل جلاله، وأكثر أمور يوم القيامة هي فيما بين أول هذا الحديث وآخره " انتهى.
وقد تتابع أهل العلم على معالجة هذا الإشكال؛ والذي يتلخص من ذلك:
أن الرواة قد يختصرون الحديث لمناسبة ما، وهذا تصرف مشهور عند السلف رضوان الله عليهم أجمعين.
ففي هذا الحديث اختصار ، واقتصار على ذكر الشفاعة المتعلقة بهذه الأمة، إما:
لأن الشفاعة في تعجيل الحساب مفهوم حصولها من سياق الحديث، فانتقل إلى ذكر نوع الشفاعة التي تحتاج إلى بيان.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله : ( فأقول يا ربِّ أمتي أمتي، فيقال. يا محمدُ، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه )، هذا يدل على أنه شُفِّع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل الموقفِ، فإنه لما أُمِر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شُرِع في حساب من عليه حِساب من أمته وغيرهم " انتهى من"المفهم" (1 / 437).
وإمّا أن يكون قد اقتصروا على الشفاعة لعصاة هذه الأمة ، لأنها كانت محل الخلاف بين أهل السنة والمبتدعة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار، وكأن مقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث : هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين ينكرون خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث ، الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث " انتهى من "البداية والنهاية" (19 / 420).
ومما يدل على وقوع هذا الاختصار أنه قد جاءت أحاديث أخر تبيّن ذلك وتوضحه:
ومن ذلك ما جاء في حديث حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ )
وَقَالَ: ( إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ، حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: ( فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ البَابِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الجَمْعِ كُلُّهُمْ ) رواه البخاري (1474 ، 1475).
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" وجاء في حديث أنس ، وحديث أبى هريرة : ابتداء النبي صلى الله عليه وسلّم بعد سجوده وحمده والإذن له في الشفاعة بقوله: ( أمتي، أمتي ) .
وجاء في حديث حذيفة بعد هذا ، وذكر الحديث نفسه فقال: ( فيأتون محمداً فيقوم، ويؤذن له، وتُرسل الأمانةُ والرحم، فيقومان جَنْبَتي الصراط ، يميناً وشمالاً، فيمُر أولهم كالبرق ) . وساق الحديث .
وبهذا يتصل الحديث؛ لأن هذه هي الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها، وهى الإراحةُ من الموقف ، والفصل بين العباد .
ثم بعد ذلك حلت الشفاعة في أمته ، وفى المذنبين، وحلت شفاعةُ الأنبياء وغيرهم ، والملائكة ، كما جاء في الأحاديث الأخر، وجاء فى الأحاديث المتقدمة فى الرؤية، وحشرِ الناس، واتّباع كل أمة ما كانت تعبُد، ثم تمييز المؤمنين من المنافقين ، ثم حلول الشفاعة ، ووضع الصراط . فيحتمل : أن الأمر باتباع الأُمم ما كانت تعبُد هو أول الفصل ، والإراحَة من هول الموقف أول المقام المحمود . وأن الشفاعة التي ذكر حلولها هي الشفاعة في المذنبين على الصراط ، وهو ظاهر الأحاديث، واْنها لمحمد نبينا وغيره كما نص فى الأحاديث ، ثم ذكر بعدها الشفاعة فيمن دخل النار .
وبهذا تجتمع متون الأحاديث، وتترتب معانيها، ولا تتنافر ولا تختلف، إن شاء الله تعالى " انتهى من "اكمال المعلم" (1 / 578).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |