عنوان الفتوى : الفهم الصحيح للحكمة من أمية النبي صلى الله عليه وسلم
الحكمة -كما يقال- من أن النبي -عليه السلام- أميّ هو إثبات أن القرآن ليس من عنده، إذن وكأننا نقول أن نقيض ذلك صحيح أي أن غير الأمي المتعلم يستطيع الإتيان بمثله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكون أمية النبي -صلى الله عليه وسلم- آية من آيات صدقه، ودليلًا على أن هذا القرآن من عند الله تعالى ـ لا يعني أن غير الأمي يستطيع أن يأتي بمثل القرآن ولا حتى بسورة منه! وإنما يعني: أن عجز المتعلمين الكتبة، والعلماء الحفظة، عن الإتيان بمثل سورة واحدة من القرآن، دليل على أن هذا الأمي ما أتى به من عند نفسه، وإنما هو وحي من الله تعالى. ولذلك سبق أن ذكرنا في الفتوى رقم: 78544 أن هذه العلوم الوافرة والمعارف الزاخرة لا يستطيع عالم قارئ كاتب تحصيلها، وأحرى أمي لا يكتب ولا يقرأ. فيعلم بذلك أنها وحي من الله تعالى، أوحي به إلى هذا النبي العظيم، وهذا لا شك أبلغ في التحدي والإعجاز.
وقد ذكر الشيخ/ سيد سابق في (العقائد الإسلامية) دلائل صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر منها: "أنه كان أُمِّيًّا، وأقام هذه الأعمال الكبار وهو أُمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، ولم يدخل معهدًا، ولم يتتلمذ على أستاذ؛ ولكنه نجح، وبلغ هذه المرتبة التي لم يبلغها أحد قبله، ولا أحد بعده. والقرآن يسجل هذه الحقيقة ليجعلها أمارة صدقه ودليل أمانته، يقول الله -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}. وما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم شيئًا من النبوة، ولا ما يتصل بالذات العلية، فجريان هذه الأعمال على يديه، إنما هو دليل الإعجاز؛ لأن المتعلمين الذين ينقطعون للعلم والبحث، ليعجزون أن يصنعوا شيئًا مما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ولا ريب أن هذا تأييد وتوفيق من الله تبارك وتعالى، والقرآن يقول: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}. اهـ.
ثم إنه ينبغي استحضار أن عرب الجاهلية مع كون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عاش فيهم عمرًا قبل البعثة، وهم يعرفون أميَّته، وصدقه وأمانته، ومع ذلك قالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] فما بالنا لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قارئا وكاتبا؟! قال ابن كثير: هذا الكلام -لسخافته وكذبه وبهته منهم- كل أحد يعلم بطلانه، فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة أن محمدًا رسول الله لم يكن يعاني شيئًا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوًا من أربعين سنة ... اهـ.
وقال السعدي: هذا القول منهم فيه عدة عظائم:
منها: رميهم الرسول الذي هو أبر الناس وأصدقهم بالكذب والجرأة العظيمة.
ومنها: إخبارهم عن هذا القرآن الذي هو أصدق الكلام وأعظمه وأجله بأنه كذب وافتراء.
ومنها: أن في ضمن ذلك أنهم قادرون أن يأتوا بمثله، وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه للخالق الكامل من كل وجه، بصفة من صفاته، وهي الكلام.
ومنها: أن الرسول قد علمت حالته وهم أشد الناس علما بها، أنه لا يكتب ولا يجتمع بمن يكتب له، وقد زعموا ذلك. اهـ.
وقال الشنقيطي في (أضواء البيان): ومن الآية الدالة على كذبهم في قوله: {اكتتبها فهي تملى عليه} قوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون}، وقوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} إلى قوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي}. والأمي هو: الذي لا يقرأ ولا يكتب. اهـ.
والله أعلم.