عنوان الفتوى : حكم الإسبال لغير خيلاء والإنكار على من يفعله
بالنسبة للإسبال من دون خيلاء، فهل يدل جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر "أنت لست ممن يفعل ذلك خيلاء" على أن العلة من الإسبال هي الخيلاء فقط؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لكنك تتعاهده أي أنه لو أن الإسبال محرم بذاته ولو من دون خيلاء لقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إن الحرج مرفوع عنه كونه يتعاهده ولا يبقيه مسبلا، وأيضا قول عمر ـ رضي الله عنه ـ للشاب المسبل "ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك" فلو كان الإسبال من دون خيلاء من الكبائر لقال له: اتق الله وارفع ثوبك؛ لأنه مرتكب كبيرة وهو مصر عليها لا يكون متقيا لله حتى يقال له أتقى لربك، فهل يرجع الإسبال من غير خيلاء إلى العرف، يعني إذا كان العرف أن الإسبال للخيلاء كما كان في الجاهلية فهو محرم سواء كان خيلاء أو غير خيلاء، أما إذا كان العرف ليس فيه أن الإسبال فيه خيلاء كما هو الحال في زمننا خاصة في البنطال فهو غير محرم؟ وإن كان هذا الفهم الذي طرحته خاطئا فكيف السبيل لإقناع الأغلبية في مجتمعي الذين هم مسبلون والذي منهم من هو متدين بأنه مرتكب كبيرة؟ وهل من الممكن أن يكون هناك خلاف بين العلماء في الحكم؛ بحيث يرى بعضهم أنه مباح والآخرين بأنه كبيرة من الكبائر؟ وهل المسبل من الرجال يكون مثل المتبرجة من النساء كونهما مرتكبين كبيرة باللباس؟.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن حكم إسبال الثياب لغير خيلاء محل خلاف بين العلماء، وأكثرهم على أنه ليس بمحرم، وقد فصلنا الأقوال والأدلة في الفتويين التالية أرقامهما: 21266، 5943.
وأما الاستدلال بقصة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ على عدم حرمة الإسبال لغير خيلاء فهو استدلال وجيه، وقد استدل بها الإمام الكبير محمد بن إدريس الشافعي، والإمام ابن عبد البر، وغيرهم.
وأما قصة عمر التي أخرجها ابن شبة في تاريخ المدينة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أقبل رجل شاب يثني على عمر رضي الله عنه ـ وقد طعن والناس يثنون عليه ـ فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، فقال: «يا ابن أخي ارفع إزارك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك» ، قال عبد الله: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه أنه رأى حقا لله يتكلم فيه. وأصله في صحيح البخاري .
فوجه الاستدلال بقول عمر (فإنه أتقى لربك) ليس بظاهر، وذلك لأن أفعل التفضيل قد تأتي للفضيلة لا للأفضلية، كما في قوله سبحانه: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا {الفرقان:24}، وقوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فصلت:40}، فقد يكون المعنى (أرفع ثوبك فإنه تقوى لربك).
وأما تعليق الخيلاء بالعرف والعادة فلا يظهر له وجه صحيح، فالخيلاء في الأصل متعلق بالقلب والباطن، وقد يظهر أثره على الظاهر.
وأما هل الإسبال من الكبائر: فإن كان لخيلاء فهو من الكبائر بلا إشكال، وقد ذكره الذهبي في الكبائر، والهيتمي في الزواجر، وغيرهما.
وأما الإسبال لغير خيلاء: فكما قدمنا أن أكثر العلماء على أنه ليس بمحرم فضلا عن أن يكون كبيرة، لكن يرى بعض العلماء المحرمين له أنه من الكبائر، قال ابن عثيمين: إذا أسبل فقد أتى منكرا وكبيرة من كبائر الذنوب، لكن تختلف العقوبة فيما إذا كان ذلك خيلاء أو غير خيلاء.اهـ. وقال ابن باز: الأحاديث تدل على أن الإسبال من كبائر الذنوب، ولو زعم فاعله أنه لم يرد الخيلاء؛ لعمومها وإطلاقها، أما من أراد الخيلاء بذلك فإثمه أكبر وذنبه أعظم. اهـ.
وأما قولك: (وهل من الممكن أن يكون هناك خلاف بين العلماء في الحكم بحيث يرى بعضهم أنه مباح والآخرين بأنه كبيرة من الكبائر) فالجواب: نعم ذلك ممكن، ومن أمثلته المسألة السابقة، ولها نظائر أخر، منها: الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، عدهما جمع من العلماء من الكبائر، ويرى داود الظاهري أن الأكل فيهما ليس بمحرم، كما حكاه النووي في شرح مسلم.
ومن ذلك قول الهيتمي في الزواجر: (الكبيرة الثامنة والسبعون: النوم على سطح لا تحجير به) أخرج أبو داود أنه ـ صلى الله عليه وسلم أ أنه قال: «من بات على ظهر بيت ليس له حجار فقد برئت منه الذمة» أخذ غير واحد من المتأخرين من هذه الأحاديث عد النوم على سطح غير محوط من الكبائر وليس هذا الأخذ بصحيح؛ لأن براءة الذمة ليس معناه هنا بخلافه فيما قدمته آنفا لما هو ظاهر من سياق تلك الأحاديث، وهذا الحديث إلا أنه وكل إلى نفسه لارتكابه ما هو سبب للهلاك عادة في بعض الناس، فلم يقتض ذلك الحرمة فضلا عن كونه كبيرة، فمن ثم اتجه أن الصواب ما عليه أصحابنا وغيرهم أن ذلك إنما هو مكروه كراهة تنزيه. اهـ.
وأما الموقف ممن يسبل ثيابه: فلا يجب أن تقنعهم بأن الإسبال لغير خيلاء محرم، والأقرب أنه لا يشرع لك الإنكار في مثل هذه المسألة للخلاف المعتبر بين العلماء فيها، إلا إن كان المسبل يعتقد التحريم، وأنت كذلك تعتقد التحريم، فحينئذ تنكر عليه، قال العز ابن عبد السلام: فمن أتى شيئا مختلفا في تحريمه معتقدا تحريمه وجب الإنكار عليه لانتهاك الحرمة، وذلك مثل اللعب بالشطرنج، وإن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا تنقض الأحكام بمثله لبطلانه في الشرع، إذ لا ينقض إلا لكونه باطلا، وذلك كمن يطأ جارية بالإباحة معتقدا لمذهب عطاء فيجب الإنكار عليه، وإن لم يعتقد تحريما ولا تحليلا أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ ولا إنكار. اهـ. من قواعد الأحكام .
وأما قولك: (وهل المسبل من الرجال يكون مثل المتبرجة من النساء كونهما مرتكبين كبيرة باللباس؟): فلا نعلم الأثر المترتب على المماثلة أو المفاضلة بين هذين الأمرين.
والله أعلم.