عنوان الفتوى : شبهة حول صفة النزول والرد عليها
أريد أن أسألكم عن نزول الله تبارك وتعالى، فقد رواه الجماعة: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له ـ والمشهور من قول مالك والأوزاعي وغيرهما: إمرارها كما جاءت بلا كيف، وهذا مذهبنا أهل السنة، وعندي استشكال: فإذا كنا نثبت هذا ولا نخوض في الكيفية ـ أي نثبت نزول الله إلى السماء الدنيا فمن لازم ذلك الحلول والاتحاد، وهو محال على الله، كما قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ـ وإذا أنكرنا الحلول فلا وجه للنزول إليها دون حلول، وقد سمعت العثيمين ـ رحمه الله ـ في قناته في شرح القصيدة لابن القيم يقول: إنه تبارك وتعالى إذا نزل يبقى فوق العرش، لأنه ليس كمثله شيء، فأريد من حضراتكم الإجابة على هذا الإشكال وشرح الجملة التي قالها العثيمين: إنه إذا نزل يبقى فوق العرش، فهل قصده أنه ينزل جزء منه ويبقى بعضه فوق العرش، لأنه ليس متناهيا وليس جسما؟.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أيها السائل الكريم أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أنا لا ندرك كيفية ذات الله سبحانه، فكذلك لا ندرك كيفية صفاته، وبناء على ذلك، فلا يصح أن يقال إن إثبات صفة النزول يستلزم إثبات الحلول أو الاتحاد، لأن ذلك اللازم إنما يرد على ذواتنا نحن وما نحوها من ذوات المخلوقات، أما ذات الله العلية: فلا تشبه ذواتنا ولا ذوات أي من مخلوقاته، وكذلك صفاته لا تشبه صفات خلقه، فنزوله إنما هو نزول يليق بجلاله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {الشورى:11}.
وحيث إن عقولنا لا تدرك كيفية ذاته، فعلينا أن نقطع الطمع كذلك في إدراك كيفية صفاته ونزوله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات، فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة، لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه، وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيه، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟. اهـ.
وكذلك الكلام في نزوله مع عدم خلو العرش منه ينبني على ما سبق، فحيث قد أثبتنا له نزولا يليق بجلاله ولا يشابه نزول المخلوقين، فلا يرد علينا استلزام ذلك لخلو العرش منه، وإن كان لازما لصفات المخلوقين، فإنه هو غير لازم بالضرورة لجميع المخلوقات، وننقل لك كلاما نفيسا لشيخ الإسلام وقد ضرب فيه أمثلة لتقريب ذلك، فقال: والصواب: قول السلف: أنه ينزل ولا يخلو منه العرش، وروح العبد في بدنه لا تزال ليلا ونهارا إلى أن يموت، ووقت النوم تعرج وقد تسجد تحت العرش وهي لم تفارق جسده، وكذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، وروحه في بدنه، وأحكام الأرواح مخالف لأحكام الأبدان، فكيف بالملائكة؟ فكيف برب العالمين؟ والليل يختلف: فيكون ثلث الليل بالمشرق قبل ثلثه بالمغرب ونزوله الذي أخبر به رسوله إلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم وإلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم، لا يشغله شأن عن شأن، وكذلك سبحانه لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، بل هو سبحانه يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم لا يشغله هذا عن هذا، وقد قيل لابن عباس: كيف يكلمهم يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم كلهم في ساعة واحدة، والله سبحانه في الدنيا يسمع دعاء الداعين ويجيب السائلين مع اختلاف اللغات وفنون الحاجات، والواحد منا قد يكون له قوة سمع يسمع كلام عدد كثير من المتكلمين، كما أن بعض المقرئين يسمع قراءة عدة، لكن لا يكون إلا عددا قليلا قريبا منه، ويجد في نفسه قربا ودنوا وميلا إلى بعض الناس الحاضرين والغائبين دون بعض، ويجد تفاوت ذلك الدنو والقرب، والرب تعالى واسع عليم، وسع سمعه الأصوات كلها وعطاؤه الحاجات كلها، ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان: إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى، وهو يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه، فيجد نفسه تقرب من نفوس كثيرين من الناس، من غير أن ينصرف قربها إلى هذا عن قربها إلى هذا. اهـ.
ونحسب هذا الكلام من شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كافيا في إزالة تلك الشبهة بإذن الله تعالى، وانظر لمزيد الفائدة الفتويين رقم: 203530، ورقم: 74007.
والله أعلم.