عنوان الفتوى : اشترط عليها أن تعيد إليه المهر بعد يوم من استلامه ، فهل يجوز أن تعيده خفية عن وليها ؟
سيتقدم لي الرجل الذي أريد الزواج به لخطبتي بعد أسبوعين ، وقد أجبرني على اختيار إما أن نلغي الزفاف ، أو أعيد له المهر بعد الزواج في اليوم التالي ، ووعدته أن يظل هذا الأمر سرا بيننا، لذا فما سيحدث أنه عند التقدم لي سيتفق مع أهلي على المهر ، وعندما أحصل عليه سأعيده له دون معرفة أهلي بذلك ، وقد أخبرته أن هذه الاتفاقية لا تجوز شرعا ؛ لإنه أجبرني على الاختيار، ولكنه اعترض على ذلك ، وقال : إن الاتفاقية جائزة ؛ لإنه كان بإمكاني اختيار الغاء الزواج؟ فما حكم ذلك كونه سيخفي الأمر عن ولي أمري؟ ما هي نصيحتكم له ولي؟
الحمد لله
أولا :
أوجب الله سبحانه على الرجل إذا أراد زواجا بامرأة أن يدفع لها صداقا ، فقال تعالى : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) النساء/ 4
قال القرطبي في تفسيره (5/24) : " هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَاقِ لِلْمَرْأَةِ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ " انتهى .
فالزواج لا بدّ فيه من المهر ، ولا بد أن يكون مالا ، وإن كان يسيرا ، أو شيئا له قيمة مالية يقدمه الزوج لزوجته .
وينظر جواب السؤال (112153) .
وإذا اشترط الرجل على زوجته أن ترد إليه المهر وأجبرها على ذلك فهذا يشبه ما لو اشترط الرجل في النكاح أنه لا يدفع مهرا .
وقد اتفق العلماء على أن هذا الشرط فاسد غير جائز ، ومنهم من ألغى الشرط وصحح عقد النكاح ، وأوجب للمرأة مهر المثل ، ومنهم من ألغى الشرط وأفسد عقد النكاح .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
مِنْ خَصَائِصِ النبي صلى الله عليه وسلم : أَنْ لَهُ يَتَزَوَّجَ الْمَوْهُوبَةَ بِلَا مَهْرٍ، وَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. بَلْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَحِلَّ بُضْعَ امْرَأَةٍ إلَّا مَعَ وُجُوبِ مَهْرٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ...
وَتَنَازَعُوا فِي " النِّكَاحِ إذَا شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ " هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:
أَحَدُهُمَا " يَبْطُلُ النِّكَاحُ ، كَقَوْلِ مَالِكٍ.
والثَّانِي : يَصِحُّ ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: هُوَ "نِكَاحُ الشَّغَارِ" الَّذِي أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِأَنَّهُ نَفَى فِيهِ الْمَهْرَ وَجَعَلَ الْبُضْعَ مَهْرًا لِلْبُضْعِ. وَهَذَا تَعْلِيلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَلَامِهِ؛ وَهَذَا تَعْلِيلُ أَكْثَرِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ...
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (32/62).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لاَ مَهْرَ لَهَا، أَوْ لاَ نَفَقَةَ، ............
قوله: وإن شرط أن لا مهر لها إذا شرط الزوج أن لا مهر لها عليه، فعلى المذهب يصح النكاح دون الشرط، فشرط عدم المهر فاسد غير مفسد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: إن شرط عدم المهر فاسد مفسد؛ لأن الله يقول: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء: 24]، فقيد النكاح بابتغاء المال، يعني أن تطلبوا النكاح بأموالكم التي تبذلونها .
ولأن الله ـ تعالى ـ ذكر فيما أحل لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن تهب المرأة نفسها له فقال: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 50]، ولو قلنا بصحة النكاح مع شرط انتفاء المهر: لكان هبة، والعبرة بالمعاني لا بالألفاظ، والهبة لا تصح إلا للرسول صلّى الله عليه وسلّم .
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يزوج الرجل الذي طلب منه أن يزوجه الواهبة نفسها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا بمهر، حتى انتهى إلى أن يكون مهرها أن يعلمها ما معه من القرآن. ولأن علة تحريم الشغار أنه لا مهر بينهما، ولذلك لو رضيت الزوجتان ، وصار كلا الزوجين كفؤاً للأخرى، ولكن شرطوا أن لا مهر : ما صح النكاح . فما دام أنه لا يصح الشغار لعدم المهر، فلا فرق .
وما ذهب إليه الشيخ ـ رحمه الله ـ هو الصحيح" انتهى من "الشرح الممتع" (12/188) .
ثانيا :
أجاز الله سبحانه للمرأة أن تتنازل لزوجها عن صداقها كله ، أو بعضه ، فقال تعالى : ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) النساء/4.
قال القرطبي في تفسيره (5 /24 ) : " قَوْلُهُ تَعَالَى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) مُخَاطَبَةٌ لِلْأَزْوَاجِ ، وَيَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْمَرْأَةِ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا : جَائِزَةً ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ " انتهى .
قال في "حاشية الروض المربع" (6/392) :
"وإن عفت المرأة عن صداقها الذي لها على زوجها، أو عن بعضه، أو وهبته إياه بعد قبضه، وهي جائزة التصرف في مالها : جاز بلا خلاف، لقوله تعالى إِلا أَنْ يَعْفُونَ وقوله فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا " انتهى .
وهذا العفو المقصود في الآية وفي كلام العلماء إنما هو العفو بعد العقد والاستحقاق ، أو بعد القبض ، أما إن أسقطته قبل العقد ، فقد أسقطته قبل أن تملكه أو تستحقه ، فالإبراء إذن غير صحيح .
وهذا التنازل من المرأة عن المهر يشترط أن يكون برضاها ، فلا يجوز للزوج أن يكرهها على ذلك .
قال السعدي رحمه الله في تفسيره (ص 163) : " فَإِنْ طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ أي: من الصداق نَفْسًا بأن سمحن لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه، أو تأخيره أو المعاوضة عنه. فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة" انتهى .
وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" (1/167) :
"قوله تعالى : وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون .
صرح في هذه الآية الكريمة بأن الزوج لا يحل له الرجوع في شيء مما أعطى زوجته ، إلا على سبيل الخلع ، إذا خافا ألا يقيما حدود الله ، فيما بينهما ، فلا جناح عليهما إذن في الخلع" انتهى.
وقول الزوج : إنه لا يكرهها على هذا الشرط لأن بإمكانها إلغاء الزفاف : قول غير صحيح . وجوابه أن يقال : إنه كان بإمكانه هو أن يلغي الزفاف ، ولا يتقدم لوليها ولا يتفق معه على شيء ، أما إذا تقدم ، واتفق مع الولي على المهر : فيجب عليه الوفاء بذلك .
فالحاصل : أن ما يشترطه هذا الزوج غير جائز لسببين :
الأول : أنه يشبه اشتراط عدم المهر في النكاح .
الثاني : أنه يجبر المرأة على التنازل عن المهر .
فالنصيحة لهذا الزوج أن يتقي الله تعالى ، ويعدل عن هذا الشرط ، وليمتثل قول الله تعالى : (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) النساء/4.
وإذا كان الولي يبالغ في المطالبة بالمهر فيطلب مهرا كثيرا ، لا يستطيعه الزوج : فالأولى للزوج في هذه الحالة أن يكون صريحا مع الولي ، ويطالبه بتقليل المهر بالقدر الذي يستطيع دفعه . فذلك خير له من خداعه للولي ، وإجباره للمرأة على التنازل عن المهر سراًّ ، بدون علم وليها .
وأما النصيحة لك أيتها السائلة ، فإننا لا نرى لك أن تكتمي هذا الأمر الهام عن وليك ، فإن اتفاقات النكاح إنما يتولاها الرجال (ولي المرأة) ، لأنه أعلم بمصالح ابنته ، وقد تردين عليه المهر ثم يحصل بعد ذلك الخلع ، فيطالبك مرة أخرى بالمهر المسجل في الأوراق ، أو الذي اتفق مع وليك عليه .
ولكننا مع ذلك نقول لك :
إذا رأيت أنك محتاجة ، أو مضطرة ، لقبول هذا النكاح ، بهذا الشرط ، وترين أن قبولك لهذا الشرط المجحف بحقك ، أخف ضررا عليك من إلغاء النكاح ؛ فلا بأس أن تقبلي بهذا الشرط ، على أن تتفقي مع الزوج على أن يكون هناك جزء معقول ، مناسب ، من المهر لا يرد ، ولو كان شيئا يسيرا ، وذلك حتى لا يخلو النكاح من مهر .
ثم إذا رددت إليه المهر فإنك تحتاطين لنفسك –إن أمكن- وتأخذين منه ما يثبت أخذه لجميع المهر ، حتى إذا وقع الخلع بعد ذلك لا يطالبك بالمهر مرة أخرى .
فإن رفض إعطاءك ما يثبت ذلك فكما سبق ، إن رأيت أن عدم إتمام النكاح سيكون أشد ضررا عليك من هذا الإجحاف فلا حرج عليك من الرضا بذلك ، وإن كنا لا نشجعك على أن تقبلي بهذا ، أو أن تمضي بنكاح ، يحفه القلق وعدم السكينة والاطمئنان من أوله .
ونسأل الله تعالى أن يعوضك خيرا ، وأن يصلح لك زوجك ، ويجمع بينكما في خير .
والله أعلم .