عنوان الفتوى : كيفية الخروج من الهجر عند ابتعاد المتهاجرين، وحكم جرح مشاعر الناس
أجبتم في الاستشارة رقم: 2217498 أنه لا إثم على الشخص المستشير في موضوع قطع الصداقة، وذكرتم السبب أنه: (قطعها للتواصل معك ليس ظلمًا لك، والهجر ينقطع بالسلام) فإذا كان الهجر ينقطع بالسلام، فماذا إذا افترق شخصان ولم يلتقيا حتى مات أحدهما؟ هل يحملان إثم القطيعة؟ وبما أن الهجر ينقطع بالسلام، فهل يتوجب على المتقاطعين الذهاب أو البحث عن القاطع والسلام عليه؟ علمًا بأن الطرف الأول رافض التواصل والصلح؟ أم ينتظر إذا اجتمع معه في الطريق أو مكان؟ وماذا لو لم تأت هذه الصدفة حتى الموت ولم يلتقيا؟ كيف يزيل المهجور أو الهاجر تلك القطيعة إذا كانت حرامًا شرعًا - كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث -؟ ويسهل إزالة القطيعة إذا كان المتخاصمان في نفس مكان الإقامة أو العمل، ولكن هناك أصدقاء كل منهما في منطقة بعيدة عن الآخر، وإذا تخاصما فلا مجال للالتقاء، وبما أن أحدهما رفض الاعتذار؛ فكيف السبيل؟ علمًا أن فيها حرمان مغفرة - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا - كما ذكرتم التالي: (كما أن مجرد قطعها للتواصل معك ليس ظلمًا لك إذا لم تؤذك بشيء) أرجو توضيح السبب بأن تلك الصديقة لم تؤذ صديقتها ولم تظلمها؟ علمًا أنها ذكرت أنها استغلتها وخذلتها، والإيذاء كان جرح مشاعر، وخذلان ثقة، فهل جرح مشاعر الآخرين لا يعد ذنبًا؟ والله تعالى لا يحاسب الشخص الذي يستغل مشاعر الآخرين؟ أرجو توضيح السبب: كيف أفتيتم أن تلك الصديقة لا تعد ظالمة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقسم الاستشارات بموقعنا مستقل عن قسم الفتوى بالموقع، لكن نجيبك من حيث العموم على القضايا الشرعية الواردة في استفسارك هذا.
القضية الأولى: وهي أن الهجر يزول بالسلام، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو المرجح عندنا؛ لظاهر حديث: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. متفق عليه.
قال ابن حجر: قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام ورده. اهـ. وقال النووي: قال مالك، والشافعي، والجمهور: وتزول الهجرة بمجرد سلامه عليه، وهو ظاهر قوله - عليه الصلاة والسلام - "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" .اهـ.
وأما في حال ابتعاد المتهاجرين وتنائيهما في المكان: فلا يجب عليهما السعي للالتقاء ببعضهما، ولا تعد هذه من الهجرة المحرمة، وإنما المحرم هو عدم السلام عند التلاقي، ويدل على هذا ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة: فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، قال: فهجرته، فلم تكلمه حتى توفيت ... الحديث. قال القاضي عياض: وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر - رضي الله عنه - فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم الذي هو ترك السلام، والإعراض عند اللقاء .اهـ.
وكذلك جاء في صحيح البخاري: عائشة حدثت: أن عبد الله بن الزبير قال: في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نذر، أن لا أكلم ابن الزبير أبدًا. فاستشفع ابن الزبير إليها، حين طالت الهجرة، فقالت: لا، والله لا أشفع فيه أبدًا، ولا أتحنث إلى نذري... الحديث.
جاء في شرح ابن بطال: قال الطبري: فإن قيل: فما أنت قائل في حديث عائشة حين هجرت عبد الله بن الزبير، وحلفت أن لا تكلمه أبدًا، فتحمل عليها بالشفعاء حتى كلمته؟ قال: معنى الهجرة هو ترك الرجل كلام أخيه مع تلاقيهما واجتماعهما، وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له، وتركه السلام عليه؛ وذلك أن من حق المسلم على المسلم إذا تلاقيا أن يسلم كل واحد منهما على صاحبه، فإذا تركا ذلك بالمصارمة فقد دخلا فيما حظر الله، واستحقا العقوبة إن لم يعف الله عنهما، فعائشة لم تكن ممن يلقى ابن الزبير فتعرض عن السلام عليه صرمًا له، وإنما كانت من وراء حجاب، ولا يدخل عليها أحد إلا بإذن، وكان لها منع ابن الزبير دخول منزلها، وليس من الهجرة المنهى عنها، كما لو كانت في بلدة وهو في أخرى لا يلتقيان لم يكن ذلك من الهجرة التي يأثمان بتركهما الاجتماع، وإن مرت أعوام كثيرة، ولم يكونا يجتمعان فيعرض أحدهما عن صاحبه، ويبين صحة ما قلناه قوله في حديث أبى أيوب: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا)، فأخبر عليه السلام بسبب حظر الله تعالى هجرة المسلم أخاه إنما ذلك من أجل تضييعهما ما أوجب الله عليهما عند تلاقيهما، فإذا لم يلتقيا فيفرط كل واحد منهما في واجب أخيه عليه، وذلك بعيد من معنى الهجرة. اهـ.
وأما الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: تعرض الأعمال في كل يوم خميس وإثنين، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم، لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اركوا هذين حتى يصطلحا، اركوا هذين حتى يصطلحا. أخرجه مسلم، فهذا الحديث في حق المتهاجرين، كما جاء في الرواية الأخرى، والهجر المنهي عنه شرعًا يزول بالسلام كما تقدم .
ومن رجع من المتهاجرين عن الهجر فلا يشمله الوعيد حينئذ، ولو مضى الآخر في الهجر، جاء في شرح الزرقاني: قال القرطبي: المقصود من الحديث التحذير من الإصرار على العداوة، وإدامة الهجر، قال ابن رسلان: ويظهر أنه لو صالح أحدهما الآخر فلم يقبل غفر للمصالح. اهـ. وراجعي الفتوى: 139589.
وأما قضية جرح المشاعر الناس: فيقال: إن جرح مشاعر الناس ليس مما يحرمه الشرع بإطلاق، بل المحرم في الشرع هو الظلم، وأما جرح الناس فهو متفاوت حسب مسبباته، وحسب اختلاف طبائع الناس، فهناك أمور واجبة في الشرع قد تجرح مشاعر الناس، كالأمر بالمعروف والنهي المنكر، وهناك أمور مباحة تجرح مشاعر الآخرين: كتمتع الغني بما أعطاه قد يجرح مشاعر الفقراء، وطلاق الرجل لامرأته أو طلبها الخلع قد يجرح مشاعر الطرف الآخر، وهلم جرًّا.
نعم هناك أمور تجرح مشاعر الناس وهي محرمة: كالسب، والغيبة، والاحتقار، ونحو ذلك.
فالحاصل أن الشرع لم يأت بحرمة جرح مشاعر الناس هكذا بإطلاق.
والله أعلم.