عنوان الفتوى : أدوات الفتيا، وشروطها، وصفة المؤهل للإفتاء
ما هو الحد الذي إذا وصلت له من العلم الشرعي يكون لي حق الفتوى؟ فأنا أنوي أن أدخل جامعة أو أكثر لتلقي العلوم الشرعية، فهل لو تخرجت من جامعة شرعية يكون لي حق الإفتاء؟ وماذا أفعل إذا لم يتيسر لي أن أعرض علمي - بعدما أتلقى العلم الشرعي إن شاء الله تعالى- على أحد العلماء ليخبرني هل أصلح للفتوى أم لا؟ ولدي سؤال آخر وهو: ما رأيكم في جامعة دار الحديث بمكة المكرمة؟ وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز أن يفتي استقلالا إلا من تأهل لذلك ببلوغ مرتبة الاجتهاد، بالعلم بالكتاب والسنة، وعلوم الآلة، ومواضع اختلاف أهل العلم وإجماعهم، وراجع في شروط الاجتهاد وضوابطه الفتويين: 34462، 146175.
وقد عقد ابن القيم في كتاب (إعلام الموقعين) فصلا لكلام الأئمة في أدوات الفتيا، وشروطها، ومن ينبغي له أن يفتي، فكان مما قال: قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه له: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة، بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي". اهـ
وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث، وليس بعالم في الفقه؟ فقال: "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن، عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها. وقال علي بن شقيق: قيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرا بالرأي. وقيل ليحيى بن أكثم: متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيرا بالرأي بصيرا بالأثر. قلت: يريدان بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردا وعكسا. اهـ.
وأما من يفتي تقليدا لأقوال المجتهدين، فقد ذكره ابن القيم بعد ذلك، وذكر خلاف أهل العلم في جواز إفتائه، على ثلاثة أقوال، وصحح الجواز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 179795.
ولا ريب في أن الدراسة في الجامعات والمعاهد الشرعية تيسر سبل الطلب المنهجي للعلم، ولكن تبقى العبرة بالفهم والحفظ والتأهل، لا بمجرد تحصيل الشهادة!
وأما مسألة عرض العلم على المشايخ للاختبار والتزكية، فإنه أمر محمود وأقرب للصيانة والتوقي، ولكنه ليس بشرط لجواز الإفتاء، وإنما الشرط هو حصول العلم، بحيث لا يتكلم المرء في دين الله، ولا يفتي في أحكام شريعته، إلا بعلم. فإذا تلقيت العلم وحصلت منه قدرا يؤهلك للفتوى في مسألة أو باب أو فن معين من العلوم الشرعية، فلا حرج عليك أن تجيب من يسألك عنه.
وأما دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة، فهي من معاهد العلم المعروفة والمرموقة. ولكن جل مادتها الدراسية في علوم الحديث لا الفقه.
والله أعلم.