عنوان الفتوى : هل صحّ حديث: (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّي: أَبِي ، وَخَلِيلُ رَبِّي ؛ إِبْرَاهِيمُ)؟
هل هناك من العلماء الأوائل أو المتأخرين من يعتقد أن إبراهيم عليه السلام يأتي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في المنزلة والرتبة ؟ لأن الرواية التالية فيما يبدو تفيد ذلك: عن بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لكل نبي من النبيين ولاة ، وإن وليّ من الأنبياء أبي إبراهيم خليل الله ) فما صحة هذه الرواية ؟ كما قرأت أيضاً ما قد يفيد أن إبراهيم عليه السلام يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم في المرتبة، من ضمن ذلك أنهما متتشابهان، وأنهما خليلي الرحمن، وأننا نذكرهما معاً في صلاتنا، وأنهما التقيا في السماء السابعة في ليلة المعراج، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى أحد أبناءه باسمه، وأن الله أمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم باتباع إبراهيم عليه السلام ..الخ ، فأرجو التفصيل في الموضوع مع ذكر الأدلة الصحيحة ومصادرها.
الحمد لله
أولا :
أفضل الأنبياء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، فهو خير بني آدم ، وأكرمهم على
الله ، وأفضل الأنبياء بعده خليل رب العالمين إبراهيم عليه السلام .
وقد نقل بعض العلماء الإجماع على ذلك . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّهُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).
وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ، مِنْهُمْ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم قَالَ: " لَا
أُفَضِّلُ عَلَى نَبِيِّنَا أَحَدًا، وَلَا أُفَضِّلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ بَعْدَ
نَبِيِّنَا أَحَدًا " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/ 317) .
وقال ابن كثير رحمه الله:
" وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُهُمْ،
ثُمَّ بَعْدَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى عَلَى الْمَشْهُورِ " انتهى من " تفسير
ابن كثير" (5/ 88) .
وقال السيوطي رحمه الله :
" ونعتقد أَن أفضل الْخلق على الإطلاق حبيب الله الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ، وخليل الله إِبْرَاهِيم يَلِيهِ فِي التَّفْضِيل، فَهُوَ أفضل الْخلق بعده،
نقل بَعضهم الْإِجْمَاع على ذَلِك ، وموسى وَعِيسَى ونوح الثَّلَاثَة بعد
إِبْرَاهِيم أفضل من سَائِر الْأَنْبِيَاء " انتهى باختصار من "إتمام الدراية" (ص
17)
وقد أخبرنا الله تعالى أنه اتخذ إبراهيم خليلا فقال: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) النساء/125 .
وهذه المنزلة (أي منزلة الخلة) لم تثبت لأحد من البشر إلا لنبينا محمد وإبراهيم
عليهما الصلاة والسلام ، فهما خير البشر .
ثانيا :
أما الحديث الذي ذكرته ، فقد رواه الترمذي (2995) ، والحاكم (3151) ، والطبري
(6/498) من طريق أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ
النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّي: أَبِي وَخَلِيلُ رَبِّي إِبْرَاهِيمُ) ، ثُمَّ
قَرَأَ: ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ) آل عمران/ 68 .
ورواه أحمد (3800) والترمذي أيضا من طريق أبي نعيم ووكيع عن سُفْيَان، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ، وقال
الترمذي : " هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ ".
قال ابن أبي حاتم رحمه الله :
" سألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رواه أبو أحمد الزُّبَيري ورَوْحُ بْنُ
عُبَادَةَ، عَنْ سُفيان الثَّوْري، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، عن مَسروق
، عن عبد الله ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ( لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةٌ
مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ وخَلِيلِي: أَبِي إِبْرَاهِيمُ)
ثُمَّ قَرَأَ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)
فَقَالا جَمِيعًا: هَذَا خطأٌ؛ رَوَاهُ المتقنون من أصحاب الثَّوْري عَنِ
الثَّوْري، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبي الضُّحى، عن عبد الله، عن النبيِّ صلى الله عليه
وسلم ؛ بِلا مَسْرُوقٍ " انتهى من "علل الحديث" (4/ 613)
وقال محققو المسند : " الذين رووه منقطعاً أثبت في سفيان من غيرهم وأكثر، ولذا رجح
أبو زرعة وأبو حاتم والترمذي الرواية المنقطعة ".
ومع ذلك ، فقد صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي ، وكذا صححه الألباني في
"صحيح أبي داود" .
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحقيق مسند أحمد : "إسناده ضعيف، لانقطاعه. فإن
أبا الضحى مسلم بن صبيح لم يدرك ابن مسعود.
ولكن رواه الترمذي من طريق أبي أحمد عن الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن
ابن مسعود، فيكون بذلك متصلاً.
ثم رواه من طريق أبي نعيم ومن طريق وكيع، كلاهما عن الثوري كما هنا ، بحذف "مسروق"
من الإسناد، ورجح الترمذي رواية من رواه منقطعاً.
وقد نقله ابن كثير في التفسير 2: 162 - 163 من سنن سعيد ابن منصور: "حدثنا أبو
الأحوص عن سعيد بن مسروق [وهو والد سفيان الثوري] عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن
مسعود".
فهذه رواية أخرى متصلة تؤيد رواية أبي أحمد التي رواها الترمذي والاتصال بذكر
"مسروق" زيادة ثقة، بل ثقتين، فهي مقبولة. وبذلك يكون الحديث في ذاته صحيحاً" انتهى
.
وينظر للفائدة : "كتاب التفسير" من سنن سعيد بن منصور ، رقم (501) ، حاشية المحقق ،
د. سعد الحميد (10/1047-1051) .
وأما معنى الحديث –إن صح- ، فقد قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" :
"قَوْلُهُ : ( إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً ) بِضَمِّ الْوَاوِ جَمْعُ وَلِيٍّ .
أَيْ : أَحِبَّاءَ وَقُرَنَاءَ هُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ
( مِنْ النَّبِيِّينَ ) حَالٌ مِنْ الْوُلَاةِ ، أَيْ كَائِنِينَ مِنْ
النَّبِيِّينَ .
( وَإِنَّ وَلِيِّي أَبِي ) يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَدْ
بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ ( وَخَلِيلُ رَبِّي ) .
( ثُمَّ قَرَأَ ) أَيْ اِسْتِشْهَادًا : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ )
أَيْ أَحَقَّهُمْ بِهِ .
( لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ ) أَيْ فِي زَمَانِهِ ، ( وَهَذَا النَّبِيُّ )
مُحَمَّدٌ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي أَكْثَرِ شَرْعِهِ ( وَاَلَّذِينَ آمَنُوا)
أَيْ مِنْ أُمَّتِهِ ، فَهُمْ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا : نَحْنُ عَلَى
دِينِهِ لَا أَنْتُمْ ( وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ نَاصِرُهُمْ
وَحَافِظُهُمْ .
فَإِنْ قُلْت : لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِ : لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً أَنْ يَكُونَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ .
قُلْتُ : لَا ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي مَكَانِ الْجَمْعِ ،
أَفَادَتْ الِاسْتِغْرَاقَ ، أَيْ : أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ ،
وَاحِدًا وَاحِدًا " انتهى .
وانظر : "مرقاة المفاتيح" (9/3961) .
وانظر جواب السؤال رقم : (149310)، (228450).
والله تعالى أعلم .