عنوان الفتوى : نصراني يسأل مشككا من الأفضل إبراهيم أم محمد عليهما الصلاة والسلام
هل هناك تفريق بين الرسل ؟ السبب وراء سؤالي هو تحدثي مع شخص مسيحي ، فقال : مَنْ الأعلى شأنًا في الإسلام ، إبراهيم أم محمد ، أي : من قام ببناء الكعبة ، أم من علمكم كيفية الطواف عليها . ولم أعرف كيف أجيب ، ولم أجبه مخافة الفتنة . فكيف يجب على الإنسان المسلم أن يجيب ؟
الحمد لله
أولا :
الواجب على الإنسان المسلم أن يجيب ابتداء بقول الله عز وجل : ( قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) البقرة/136، وقوله عز وجل : ( آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ ) البقرة/285، وقول الله جل وعلا : ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) آل
عمران/84
والمقصد في جميع هذه الآيات هو تأكيد أن المسلم يؤمن بجميع الرسل والأنبياء ،
ويتولاهم ، ويحبهم ، ويعتقد نبوتهم وأفضليتهم على جميع الناس ، ولا يفرق بين أحد
منهم ، تفريقا يؤدي به أن يؤمن ببعض ويكفر ببعض ، أو يتولى بعضهم ويتنكر للآخرين ،
أو يحب من يشاء ويبغض من يشاء ، أو يرفع بعضهم ، ويتنقص آخرين ؛ فكل ذلك ليس من فعل
المسلمين المؤمنين ، ومن وقع في التفريق المنهي عنه بين الرسل ، فليس هو من أتباع
أي منهم ، فقد بعثهم الله عز وجل يصدق بعضهم بعضا في الرسالة ، وكلهم يبشر بنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ
مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ . فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )
آل عمران/81-82.
ثانيا :
السؤال عن الأعلى شأنا بين الأنبياء ، أو عن المفاضلة بينهم ، إذا أريد به إحداث
الفرقة والنزاع ، أو إظهار المسلم مظهر المتنقص لأحد الأنبياء لا قدر الله ، أو وقع
في سياق التعصب المفضي إلى الإعراض عن الإيمان والإسلام – إنما هو سؤال شيطاني جدلي
، لا يجاب بالوقوع في شَرَك السائل ومَكْره ، بل يجاب بما ورد في القرآن الكريم ،
من منزلة عظيمة لكل الأنبياء والرسل ، وعدم التفريق بينهم .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ :
" جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ ، وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ
مِنَ الأَنْصَارِ لَطَمَ فِي وَجْهِي ، قَالَ : ادْعُوهُ . فَدَعَوْهُ ، قَالَ : (
لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ ؟ ) ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي مَرَرْتُ
بِاليَهُودِ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى البَشَرِ ،
فَقُلْتُ : وَعَلَى مُحَمَّدٍ ، وَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ ، قَالَ : (
لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ
يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى
آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ
جُزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ ) رواه البخاري (4638).
يقول المازري رحمه الله (ت536هـ):
" كان بعض شيوخي يقول : يحتمل أن يريد : لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدّي
إلى نقص بعضهم ، وقد خرجَ الحديث على سبب ، وهو لَطم الأنصاريّ وجهَ اليهودي ، فقد
يكون صلى الله عليه وسلم خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص حقّ موسى عليه السلام ،
فنهى عن التّفضيل المؤدّي إلى نقص بعض الحقوق " انتهى من " المعلم بفوائد مسلم "
(3/233) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قال العلماء : في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء إنما نهى عن
ذلك من يقوله برأيه ، لا من يقوله بدليل .
أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول .
أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع .
أو المراد : لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل ، بحيث لا يترك للمفضول فضيلة ، فالإمام
مثلا إذا قلنا إنه أفضل من المؤذن ، لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان
.
وقيل : النهي عن التفضيل إنما هو في حق النبوة نفسها ، كقوله تعالى : ( لا نفرق بين
أحد من رسله ) ولم ينه عن تفضيل بعض الذوات على بعض " انتهى من " فتح الباري "
(6/446) .
وحينئذ تدرك أن جواب هذا المعترض بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تخيروني من بين
الأنبياء ) هو أفضل الأجوبة وأولاها ، كي يقطع الطريق عليه أن يزايد في تولي أبي
الأنبياء إبراهيم عليه السلام على حساب المسلمين ، وكي لا يظن السامع تنقص المسلمين
لأحد من الأنبياء ، فالمفضول كثيرا ما يتوهم الناس نقصه ونزول مرتبته ، وهذا لا
يليق بمقام النبوة ، ومن باب أولى أن لا يليق بمقام إبراهيم عليه السلام ، الذي هو
من أولي العزم من الرسل .
ثالثا :
أما ما ذكره هذا المعترض المجادل ، من تفضيل نبي الله إبراهيم ببناء الكعبة ، ونحو
هذا من كلامه ، فيقال له :
نعم ، ونحن أولى بإبراهيم عليه السلام منه ، ومن غيره من أهل الملل ، ومقام نبي
الله إبراهيم أعظم وأجل من ذلك كله ، وهو أبو الأنبياء ، وأشبه الناس به ابنه ،
خاتم الأنبياء : محمد ، صلى الله عليهما وسلم وبارك ، وهو خليل الرحمن ، وهو فوق ما
يقول المجادل ، وأجل .
لكننا ننبه السائل هنا إلى أمرين مفيدين :
الأمر الأول :
أن ما أعطاه الله جل جلاله لبعض أنبيائه ورسله من الفضائل ، لا يعني أنه أفضل من
غيره مطلقا ، ولا يعني أن غيره لم يحز من الفضائل ما يعادل هذه الفضيلة ، أو يزيد
عليها .
قال الشيخ عمر سليمان الأشقر ، رحمه الله :
" الذي يتأمل في الآيتين اللتين أخبرتا بتفاضل الأنبياء والرسل يجد أن الله فضّل
مَن فضّل منهم ، بإعطائه خيراً لم يعطه غيره ، أو برفع درجته فوق درجة غيره ، أو
باجتهاده في عبادة الله والدعوة إليه، وقيامه بالأمر الذي وكل إليه.
فداود عليه السلام فضله الله بإعطائه الزبور، (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)
[الإسراء: 55] ، وأعطى الله موسى التوراة (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة: 53] والكتاب هو التوراة (إِنَّا
أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) [المائدة: 44] وأعطى عيسى الإنجيل
(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ)
[المائدة: 46] .
وقد اختص الله آدم بأنّه " أبو البشر، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر
الملائكة فسجدوا له ".
وفضل نوحاً بأنّه " أوّل الرسل إلى أهل الأرض، وسمّاه الله عبداً شكوراً ".
وفضل إبراهيم باتخاذه خليلاً (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء:
125] وجعله للناس إماماً (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة: 124] .
وفضل الله موسى برسالاته وبكلامه، (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي) [الأعراف: 144] واصطنعه لنفسه (وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي) [طه: 41] .
وفضل عيسى بأنّه رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكان يكلّم الناس في
المهد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) [النساء: 171] .." انتهى ، من "الرسل
والرسالات" (218-219) .
الأمر الثاني :
أن كثيرا من العلماء قالوا إن تفضيل بعض الأنبياء على بعض إنما كان لاصطفاء إلهي ،
واختيار رباني ، وليس بسبب عمل خاص تميز به دون غيره من الرسل والأنبياء .
وهذا التقرير يقطع الطريق على من يشتغل بالمقارنة بين أعمال الأنبياء ليقارن بينها
، ويخوض في أمر لا طائل من ورائه ، سوى الخوض في مقام النبوة بما لا يليق .
يقول ابن قتيبة رحمه الله :
" وليس ما أعطى الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة من السؤدد والفضل
على جميع الأنبياء والرسل بعمله ، بل بتفضيل الله تعالى إياه ، واختصاصه له ، وكذلك
أمته أسهل الأمم محنة .
بعثه الله تعالى إليها بالحنيفية السهلة ، ووضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على
بني إسرائيل في فرائضهم . وهي - مع هذا - خير أمة أخرجت للناس بفضل الله تعالى "
انتهى من " تأويل مختلف الحديث " (ص183)، ونقله ابن بطال في " شرح صحيح البخاري "
(6/ 535) .
رابعا :
على أننا نقول للسائل ، وللمجادل ، وفي ضوء ما سبق من الآداب ، والأصول المرعية في
الشرع :
إن نبي الله محمد بن عبد الله ، هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، وهو أفضلهم منزلة عند
الله ، وهو سيد ولد آدم ، وأفضل الأنبياء بعده هو أبوه إبراهيم عليه السلام ، وما
ورد من النهي عن التفضيل ، فقد سبق بيان وجهه ، مع ما كان عليه صلى الله عليه وسلم
من تواضعه لربه عز وجل ، فيقول في مقام التواضع ، ما لا يقوله في مقام البيان العام
للناس .
وقد روى مسلم في صحيحه (2278) ، عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ
شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) .
وفي سنن الترمذي (3148) ، وابن ماجة (4308) وغيرهما ، من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري
رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (
أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ
الحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلاَّ
تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ )
وصححه الألباني ، وصححه أيضا : شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" (7/256) .
وقال القاضي عياض - رحمه الله -: " لا خلاف أنه أكرم البشر، وسيد ولد آدم ، وأفضل
الناس منزلة عند الله، وأعلاهم درجة ، وأقربهم زلفى ، واعلم أن الأحاديث الواردة في
ذلك كثيرة جداً"
ولمزيد من الفائدة ، ينظر في الفتوى رقم : (7459) ، (10669) ، (83417) ، (89814) ،
(217450) .
والله أعلم .