جواز لعن من اتصف بصفة لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتصف بها دون التعيين
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
جواز لَعْن مَن اتَّصَف بصفةٍ لَعَن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن اتَّصَف بها دون التعيينعن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله، قال: "لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ والمُوتَشِمَاتِ، والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ" قال: فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يُقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتَتْه فقالتْ: ما حديث بلغني عنك؛ أنك لَعَنت الواشمات والمستوشمات والمُتنمِّصات والمُتفلِّجات للحُسْن المُغيِّرات خَلْقَ الله، فقال عبدالله: وما لي لا ألعن مَن لعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأتُ ما بين لَوْحَي المصحف، فما وجدْتُه، فقال: لئن كنتِ قرأْتِيه لقد وجدْتِيه، قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، فقالت المرأة: فإني أرى شيئًا من هذا على امرأتك الآن، قال: اذهبي فانظري، قال: فدخلت على امرأة عبدالله فلم ترَ شيئًا، فجاءتْ إليه، فقالت: ما رأيتُ شيئًا، فقال: أما لو كان ذلك لم نُجامِعها.
يُؤخذ من الحديث جواز لَعْن مَن اتَّصَف بصفةٍ لَعَن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن اتَّصَفَ بها؛ لقول عبدالله: "وما لي لا ألعنُ مَن لعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم" كما سيأتي في الشرح، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا لعَّانًا ولا منتقمًا لنفسه.
عبدالله: هو عبدالله بن مسعود بن غافل الهُذلِي أبو عبدالرحمن الكوفي، أحد السابقين الأولين، وصاحب النعلين[1]، شهِد بَدْرًا والمَشَاهِد، وروى عنه خَلْقٌ من الصحابة، وروى عنه من التابعين علقمة ومسروق وآخرون، تَلَقَّن من النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورةً، قال عَلْقَمَة: كان يُشبه النبي صلى الله عليه وسلم فى هَدْيِه ودَلِّه[2] وسَمْته[3]، مات بالمدينة سنة 32 هـ عن بضع وستين سنة[4]، وهو ليس من العبادلة الأربعة[5] لتَقَدُّمِ وفاته عنهم، ومع ذلك إذا قال العلماء: "عن عبدالله" فالمقصود على الإطلاق هو عبدالله بن مسعود رضي الله عنه[6].
"قال: فبلغ ذلك"؛ أي: قال الراوي، والظاهر أنه علقمة، والقائل هو الراوي عنه وهو إبراهيم؛ وتقدير الكلام:"قال إبراهيم قال علقمة: "فبلغ ذلك..
إلخ"، "ذلك"؛ أي: قَوْل عبدالله: "لعن الله الواشمات..
".
"لَعَنَ الله": اللَّعْن: الطَّرْدُ والإبعادُ من رحمة الله، والجملة خبرية، أو إنشائية دعائية.
والوشم: هو أن يُغرز الجلد بإبرة، ثم يُحشى بكحل أو نيل، فيزرقُّ أثرُه، أو يخضَرُّ.
النمص: هو إزالة شعر الحاجب ورِقته ونَتْفه.
"المُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ": يعني التي تَبْرد بين أسنانها لتفرقها؛ طَلبًا للحُسْن والمنظر دون أي عِلَّة صحيَّة.
"المُغيرات خَلْقَ الله": صفة تشير إلى سبب لَعْن هؤلاء المذكورات، وهي صفة لازمة لمن تصنع الوَشْم والنَّمْص والفَلْج، فإنَّ فِعْلَهنَّ هذا تغيير لخَلْقِه سبحانه، وتزوير وتدليس وخداع، ولو رُخِّص فيه لاتَّخذَه الناسُ وسيلةً إلى أنواع الفساد، ولعله قد يدخل في معناه صنعة الكيمياء[7]؛ فإن من تعاطاها إنما يروم[8] أن يلحق الصَّنْعَة بالخِلْقة، وكذلك كل مصنوع يُشَبَّه بمطبوعٍ وهو باب عظيم من الفساد[9].
و"خَلْقَ": مصدر منصوب، مفعول به (بالمُغيِّرات)، مضاف إلى لفظ الجلالة من إضافة المصدر إلى فاعله.
وأم يعقوب: لا يُعرف اسمُها، ومراجعتها لعبدالله تدُلُّ على أن لها إدراكًا وفَهْمًا وعِلمًا.
وقولها: "ما حديث بلغني": ما: استفهامية مبتدأ، و"حديث": خبرها، وجملة "بلغني" في محل رفع صفة له، وقولها هذا استفهام اسْتِثْبَات، أو استفهام إنكار على ابن مسعود وهو الظاهر؛ لأن الحديث بلغها مَوْقُوفًا عليه[10]؛ ولذلك قالت له: "لَعَنت" ولم تكن تعلم أن الحديث مرفوع[11].
"ومالي لا ألعن مَن لعَنَ رسولُ الله صلى الله وعليه وسلم": الواو: عاطفة على جملة مقدرة مناسبة للمقام، وما: استفهامية مبتدأ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر، وجملة "لا ألعن": حال من الضمير المجرور، وهو استفهام إنكار بمعنى النفي[12].
فهو يقول: "أتنكرين عليَّ هذا اللعن؟ وأي شيء لي "أو أي شأنٍ لي" إذا لم أَقْتَدِ برسول الله صلوات الله وسلامه عليه في لَعْن مَن يستحق اللعن، وهذا اللعن ثابت في كتاب الله العزيز؟! " يعني: "لا شيء لي إذًا من الفضل؛ لأنه لا فضل لأحدٍ ولا قدر له إلا باتِّباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول ابن مسعود: "ما لي لا ألعنُ مَن لعَنَ رسولَ الله صلى الله وعليه وسلم" صريح في أنَّ لَعْن هؤلاء المذكورات جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم؛ فالحديث إذًا مرفوع بهذا الإسناد، ثم استنبط ابن مسعود أنَّ لَعْنَهن جاء في كتاب الله أيضًا لعموم قوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]؛ أي: ما أمركم به فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فمن لم يفعل ما أُمر به ولم يجتنب ما نُهي عنه فهو ظالم، وقد قال تعالى: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18].
بَنَتْ أمُّ يعقوب معارضتها لابن مسعود على أمرين: وَقْف الحديث عليه، وعلى أنها لم تجد لعن هؤلاء في كتاب الله؛ فأخبرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَعَنَهن، وأن لَعْنَهن إن لم يكن في كتاب الله صراحةً فهو فيه ضمنًا لمن تَدَبَّره وأمْعَن النظر فيه واستنبطه، وإنه استِنْباط دقيق يعلو على فَهْم أمِّ يعقوب، وقد اقتنعت أمُّ يعقوب بما قال ابنُ مسعود.
وقولها: "ما بين لَوْحي المصحف"؛ أي: دَفَّتَيه، وقد كانوا يكتبون المصحف في رَقٍّ، ويجعلون له دفتين من خشب، وقد يُطلَق على الكرسي الذي يُوضَع عليه المصحف اسم لوحين[13].
وقول ابن مسعود لها: "لئن كنت قرأْتِيه لقد وجدْتِيه": بإثبات الياء المُتوَلِّدة من إِشبَاع الكَسْرة في التَاءين (قرأتِيه -وجدتِيه) وهي لغة معروفة، والأَفْصَح حذفها في خطاب المؤنث، واللام في "لئن" مُوَطِّئة للقَسَم[14]، واللام في " لقد" واقعة في جواب القسم الذي سدَّ مَسَدَّ جواب الشرط، والمراد: لئن كنت قرأتيه بِتَدَبُّر وإمعانٍ لقد وجدتيه – أي: اللعن - كما وجدْتُه أنا.
ثم "قالت: إني أرى شيئًا من هذا على امرأتك": وهي زينب بنت عبدالله الثَّقَفية، وهذا اعتراض آخر على ابن مسعود من أجل سكوته عن امرأته وعدم نَهْيها عمَّا اقترفَتْه، والظاهر" إني أرى" في كلامها بمعنى: أظنُّ، قالت له ذلك على سبيل الظن، فأخبرها بأنَّ امرأته لا تفعل شيئًا من هذه المَنْهِيَّات، ولو فعلت منها شيئًا لمَا صاحَبَها، وقيل: إنها رأتْ بالفعل شيئًا وكان ابن مسعود أمرها بإزالته فأزَالته، قال الأُبِّي [15] ج 5 ص 409: "ويَبْعُد أن الذي رأته كان وشمًا أو تفليجًا؛ لأنه لا يزول عن قرب أو لا يزول البتة؛ فيَتَعَيَّن أن الذي رأته التنميص؛ لأنه الذي يزول عن قرب بِنَبات شَعر آخر"؛ ا هـ، وفيه تَكَلُّف.
بعض ما يُؤخَذ من الحديث:
ويُؤخَذ من الحديث جواز لَعْن من اتَّصَف بصفةٍ لَعَن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن اتَّصَفَ بها؛ لأنه لا يُطْلق اللَّعْن إلا على مَنْ يستحقُّه ولو بحسب الظاهر، فلو لعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحدًا لا يستحق اللعن في علم الله تعالى أو دَعَا على أحدٍ بدعوةٍ وهو ليس لها بأهل؛ فقد اشترط صلى الله عليه وسلم على ربِّه أن يجعلها لمن لَعَنَه أو له ما عليه؛ طَهورًا وزكاة وقربة[16]، فأمَّا من استحق اللعن والسَّبَّ في علم الله تعالى فإن لَعْنه صلى الله عليه وسلم له يكون زيادةً في شِقْوته والعياذ بالله، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا لعَّانًا ولا منتقمًا لنفسه.
ويُؤخَذ منه أيضًا جواز نِسبة ما يدل عليه الاستنباط إلى كتاب الله تعالى وإلى سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم نِسْبَةً قَوْلِية؛ فكما جاز نِسْبَةً لَعْن الواشمة إلى كونه في القرآن لِعموم قوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، مع ثبوت لَعْنِه صلى الله عليه وسلم لِمَن فعل ذلك؛ يجوز نسبة من فعل أمرًا يندرج في عموم خَبَرٍ نبويٍّ، ونقل ما يدل على مَنْعِه، إلى القرآن؛ فيقول القائل مثلًا: "لعن الله من غَيَّر مَنار الأرض" في القرآن، ويستند في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم لَعَن من ارتكب هذه الكبائر[17] في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَعَنَ اللَّهُ مَن لَعَنَ والدَهُ، ولَعَنَ اللَّهُ مَن ذبحَ لغيرِ اللَّهِ، ولَعَنَ اللَّهُ مَن آوى مُحدِثًا[18]، ولَعَنَ اللَّهُ من غيَّرَ مَنارَ الأرضِ[19])) في حديثٍ رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[1] "صاحب النعلين"؛ أي: صاحب نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبدالله كان يُلْبِسهما إياه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه، وإسناد النعلين إليه مجاز لأجل المُلَابَسة، وفي الحقيقة صاحب النعلين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[2] الدَّلُّ: الحالةُ التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار في الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك.
[3] سَمَت سَمْت فلان؛ أي: نحا نحوه واتَّبع طريقتَه.
[4] انظر الخلاصة، ص181، والفتح والرائد ص 32، والشهاوي ص 245.
[5] العبادلة هو لقب أُطلق على أربعة من الصحابة؛ لأنهم من صغار الصحابة، جمعوا علمًا واسعًا، وكانوا مدار العلم والفُتيا والرواية عنهم لتأخُّر وفاتهم، وهم: عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو بن العاص، هكذا ذَكرهم أهل الحديث وغيرهم من العلماء، وهؤلاء عاشوا حتى احْتُجَّ إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو فعلهم، أو مذهبهم.
[6] الرائد ص32.
[7] شَبَّه تغيير خلق الله بصنعة الكيمياء التي تحدث تغييرات فى بِنْيَة المادة وتكوينها.
[8] يروم: هَمَّ بشيء بعد شيء.
[9] حكاه في الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، جـ 10، ص 328، القسطلاني.
[10] الحديث الموقوف هو: ما يُروى عن الصحابة من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[11] الحديث المرفوع هو: ما أُضِيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، وسواء كان المضيف هو الصحابي أو من دونه، متصلًا كان الإسناد أو منقطعًا، وقد سُمِّي هذا النوع من الحديث بالمرفوع، نسبة إلى صاحب المقام الرفيع وهو: النبي صلى الله عليه وسلم.
[12] استفهام الإنكار بمعنى النفي: كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ ﴾ [النساء: 75]، و﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ ﴾ [النساء: 78]، و﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ﴾ [النساء: 88].
[13] الفتح، جـ 12، ص495.
[14] هي اللام الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبنيٌّ على قسم قبلها، لا على الشرط، ومن ثم تُسمَّى اللام الموطئة للقسم؛ لأنها وطَّأت الجواب للقسم؛ أي: مهَّدت له؛ وأكثر ما تدخل على إنْ، كما في قولك: "والله لئن أكرمتني لأكرمنك".
[15] هو أبو عبدالله محمد بن خلفة بن عمر التونسي الوشتاني الأُبِّي المالكي، عالم بالحديث، وفقيه ومفسِّر من أهل تونس.
[16] انظر: صحيح مسلم، شرح النووي، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سَبَّه في حديثٍ لأنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي اشْتَرَطْتُ علَى رَبِّي، فَقُلتُ: إنَّما أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وَأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ، فأيُّما أَحَدٍ دَعَوْتُ عليه مِن أُمَّتِي بدَعْوَةٍ ليسَ لَهَا بأَهْلٍ؛ أَنْ يَجْعَلَهَا له طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بهَا منه يَومَ القِيَامَةِ)).
[17] انظر الفتح، ج 12 ص 495.
[18] المُحْدِث هو من أحدث أمرًا منكَرًا، والنهي هو عن الدفاع عنه أو إيوائه أو منْع المظلوم أن يَقتص منه.
[19] العلامات التي تميز الأملاك وتحددها.