عنوان الفتوى : علاقة تقوى الله والعمل الصالح بالرزق والحياة الطيبة في الدنيا .
أريد أن أعرف معنى الآيتين : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل / 97 . ، وقوله (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن/ 46 . وعلاقتهما بالرزق ، وكيف أستفيد من الرزق الطيب من خلال التوكل واليقين وحسن الظن بالله وعلاقتها بحصول البشرى ؟
الحمد لله
قال الله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/ 97 .
والمقصود بالحياة الطيبة التي يحياها المؤمن في دنياه : حياة قلبه بالإيمان ،
وانشراح صدره ، وسعادته بإيمانه بربه .
كما أنها تشمل الرزق الطيب الواسع الحلال ، ولكن سعة الرزق ليست شرطا لحصول الحياة
الطيبة ، فقد يكون العبد فقيرا ويرزقه الله القناعة والرضى بما هو فيه ، ويبارك له
في القليل ، فيكون قد أحياه الله حياة طيبة وانتفع برزقه أكثر من انتفاع كثير من
الأغنياء بأموالهم .
وتقوى الله – على سبيل العموم – سبب من أسباب الرزق .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى :
" هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ، وَهُوَ الْعَمَلُ
المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
، مِنْ بَنِي آدَمَ ، وَقَلْبُهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِه بِأَنْ يُحْيِيَهُ
اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَجْزِيَهُ بِأَحْسَنِ مَا
عَمِلَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ .
وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِالرِّزْقِ
الْحَلَالِ الطَّيِّبِ .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَهَا
بِالْقَنَاعَةِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَوَهْبُ بْنُ
مُنَبِّهٍ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: أنها هي السَّعَادَةُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ ، وَالْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: هِيَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ ، وَالِانْشِرَاحُ بِهَا
.
وَالصَّحِيحُ : أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ تَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ " انتهى من "
تفسير ابن كثير " (4/ 516) .
وانظر جواب السؤال رقم : (135711) .
وهذه الآية الكريمة علاقتها بالرزق واضحة ، وهي أن تقوى الله ، والعمل الصالح :
سبب في حصول نعيم الدنيا والآخرة ، ومنه الرزق الطيب الواسع ، كما قال تعالى : (
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) الطلاق/ 2،3 .
قَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الصَّدَفِيُّ : " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ، فَيَقِفُ
عِنْدَ حُدُودِهِ ، وَيَجْتَنِبُ مَعَاصِيَهُ : يُخْرِجْهُ مِنَ الْحَرَامِ إِلَى
الْحَلَالِ ، وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ ، وَمِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ : مِنْ حَيْثُ لَا يَرْجُو.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: " هُوَ الْبَرَكَةُ فِي الرِّزْقِ " .
" تفسير القرطبي " (18/ 160) .
وقال السعدي رحمه الله :
" أي: يسوق الله الرزق للمتقي ، من وجه لا يحتسبه ، ولا يشعر به " .
انتهى من " تفسير السعدي " (ص 870) .
وهذا كقوله تعالى عن أهل الكتاب : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) المائدة/ 66 .
وكقوله عز وجل : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) الأعراف/ 96 .
والمسلم بتمام توكله ويقينه ، وحسن ظنه بالله : يسعد في الدارين ، ويكون له فيهما
الحياة الطيبة ، فيرزق الرزق الواسع ، ويهنأ عيشه ، وتطيب أيامه ، وذلك أن التوكل
واليقين وحسن الظن بالله، من أهم أعمال القلوب التي تطهر القلب ، وتملؤه إيمانا .
فإذا صلح القلب صلح الجسد كله ، وإذا فسد فسد الجسد كله ، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ
الْقَلْبُ ) رواه البخاري (52) ، ومسلم (1599) .
فيأخذ المسلم بالأسباب التي يحصل بها الرزق ، ويكون معتمدا على الله واثقا بأن الله
سيأتيه برزقه ، فإنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها ، كما تستوفي أجلها .
فيورثه ذلك مزيدا من الطمأنينة والقناعة والرضى ، ويبذل ماله في مرضات الله تعالى ،
غير خائف من الفقر ولا من قلة الرزق ، بل يوقن أن ذلك من أسباب الرزق ، كما قال
الله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) ابراهيم/7 .
وكما قال الله تعالى في الحديث القدسي : ( يَا ابْنَ آدَمَ ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ
عَلَيْكَ ) رواه البخاري (4684) ، ومسلم (993) .
ثانيا :
أما الآية الثانية ، وهي قوله تعالى : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)
الرحمن/ 46 .
فالمعنى : أن من خاف مقامه بين يدي الله يوم القيامة ، وأحسن الاستعداد لذلك اليوم
؛ فأدى فرائض الله ، واجتنب محارمه : فله يوم القيامة عند ربه جنتان .
قال السعدي رحمه الله :
" أي : وللذي خاف ربه وقيامه عليه ، فترك ما نهى عنه ، وفعل ما أمره به، له جنتان
من ذهب ، آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما، إحدى الجنتين جزاء على ترك
المنهيات ، والأخرى على فعل الطاعات " انتهى من " تفسير السعدي " (ص 831) .
وانظر: "تفسير الطبري" (23/ 55) .
وانظر السؤال رقم : (27109) .
وهذه الآية الكريمة لا علاقة لها بالرزق في الدنيا ، إلا من جهة أن من رزقه الله الجنتين في الآخرة ، فهو ممن أحياه في الدنيا حياة طيبة ، وقد تقدم أن الحياة الطيبة في الدنيا تشمل حياة القلب وسعة الرزق .
وقد قيل : إن المقصود بالجنتين : جنة في الدنيا ، وجنة في الآخرة . وهذا خلاف المشهور من تفسير الآية .
والله أعلم .