عنوان الفتوى : مسائل عن التسري في الإسلام
يذكر بعض العلمانيين شبهات حول الإسلام من حيث إباحة التسري بملك اليمين، ويقولون: إن الإسلام لم يعمل على تجفيف منابع الرق، وإنما زادها، واستشهدوا على ذلك بأن بعض الصحابة كانوا يتحرجون من وطء السبايا المتزوجات، فأباحه لهم الإسلام، وبأن العرب لم يكونوا يفعلون ذلك، فهل من دليل، أو مصادر تاريخية يمكن الرجوع إليها في هذا الشأن للرد عليهم؟ وهل حدث في التاريخ أن قام الكفار بسبي نساء مسلمات حتى نعتبر الأمر معاملة بالمثل ضرورية؟ وإذا زوج السيد أمته فهل تحرم عليه، أم يجوز له وطؤها؟ وهل يجوز التسري بأمة متزوجة لو كانت غير سبية؟ وما تفسير آية سورة النساء: والمحصنات... إلا ما ملكت أيمانكم؟ وهل من المعقول أن الله يحدد للرجل أربع زوجات، ويبيح له التسري بعدد لا نهاية له من الجواري؟ وما الحكمة من تحريم الزواج بما فوق الأربع؟ وقد قرأت لحضرتكم في فتاوى سابقة أنه يجب على المسلم الاهتمام بأوامر الله، وأن يبتعد عن هذه النقاشات، ولكن كيف يصبح مؤمنًا إذا كان في قلبه شك، وعدم قدرة على الاستيعاب، وشعور بالظلم؟.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد نبهنا قبل ذلك مرارًا على أن الخلط والتشويش في قضية الرق والسبي إنما يكون بسبب عدم إدراك طبيعة المجتمعات البشرية قديمًا أيام وجود الرق، وعدم العلم بأحكام الشريعة الإسلامية، وهديها في معالجة القضية، وأحلنا على بعض الكتابات المتخصصة التي تناولت قضية الرق، وفيها التنبيه على مبدأ المعاملة بالمثل، كما في الفتوى رقم: 184849.
وأما بخصوص تحرج بعض الصحابة من وطء سبايا أوطاس من أجل أزواجهن من المشركين: فهذا لم يكن بحكم طبيعتهم، أو عادات الجاهلية، حتى يقال: إن الإسلام أباحه لهم، بل كان ذلك الحرج بسبب الإسلام ذاته، فقد فهموا من أحكامه العامة أن المرأة المتزوجة لا تحل لغير زوجها، فلم يستثنوا من ذلك سبايا الحرب، فأنزل الله تعالى هذه الآية لاستثناء ذلك من عموم التحريم، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقوا عدوًا، فقاتلوهم فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم {النساء: 24} أي: فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن.
وهذا الحرج الذي أصابهم إنما هو حرج شرعي، وليس من قبيل العادة، أو مراعاة العرف، قال النووي: معنى: تحرجوا ـ خافوا الحرج، وهو الإثم: من غشيانهن ـ أي: من وطئهن من أجل أنهن زوجات، والمتزوجة لا تحل لغير زوجها. اهـ.
ومما يوضح ذلك أن أهل الجاهلية ما كان عندهم ضوابط لوطء السبايا، وما كانوا يتنزهون حتى عن وطء الحوامل، إلى أن جاء الإسلام وفرض عليهم استبراء رحم السبية قبل وطئها، فقد روى أبو داود، وغيره، عن أبي سعيد الخدري أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة.
وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في وطأ الحامل حتى هم أن يلعن من يفعله، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أتى بامرأة مجح ـ هي الحامل التي اقتربت ولادتها ـ على باب فسطاط، فقال: لعله يريد أن يلم بها ـ أي: يجامعها ـ فقالوا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟.
وهذا يثبت بطلان دعوى امتناع العرب في الجاهلية عن وطأ السبية المتزوجة!
وأما إذا زوج السيد أمته، فإنه يحرم عليه وطؤها، ولا يملك حق طلاقها، وراجعي الفتوى رقم: 112760.
وكذلك التمتع بالإماء المتزوجات لا يحل إلا في الصورة المستثناة في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ {النساء: 24}.
قال السعدي: وَمن المحرمات في النكاح الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ـ أي: ذوات الأزواج ـ فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها: إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ـ أي: بالسبي، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ، وأما إذا بيعت الأمة المزوجة، أو وهبت، فإنه لا ينفسخ نكاحها، لأن المالك الثاني نزل منزلة الأول، ولقصة بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وهذا هو الراجح في معنى الآية، فقد وقع فيه خلاف بين أهل العلم، قال ابن الجوزي في زاد المسير: وفي المراد بالمحصنات هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: ذوات الأزواج، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن جبير، والنخعي، وابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
والثاني: العفائف، فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح، أو ملك يمين، وهذا قول عمر بن الخطاب، وأبي العالية، وعطاء، وعبيدة، والسدي.
والثالث: الحرائر، فالمعنى: أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذُكِرْنَ في أول السورة، روي عن ابن عباس، وعبيدة.
فعلى القول الأول في معنى قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ـ قولان:
أحدهما: أن معناه: إِلاَّ ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب، وعلى هذا تأوَّلَ الآية عليٌ، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، وكان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقاً.
والثاني: إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ذوات الأزواج، بسبي، أو غير سبي، وعلى هذا تأوَّلَ الآية ابنُ مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وجابر، وأنس، وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقاً.
وقد ذكر ابن جرير، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن: أنهم قالوا: بيع الأمة طلاقها، والأول أصح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيّر بريرة إِذ أعتقتها عائشة، بين المقام مع زوجها الذي زوَّجها منه سادتُها في حال رقّها، وبين فراقه، ولم يجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم عتق عائشة إِيّاها طلاقاً، ولو كان طلاقاً لم يكن لتخييره إِياها معنى، ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية.
وعلى القول الثاني: العفائف حرام إِلا بملك، والملك يكون عقداً، ويكون ملك يمين.
وعلى القول الثالث: الحرائِر حرام بعد الأربع إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء، فإنهن لم يُحصَرن بعدد. اهـ.
وراجعي الفتويين رقم: 2372، ورقم: 6186.
وهنا ننبه على أن أكثر أهل العلم ـ ومنهم الأئمة الأربعة ـ على حرمة وطء الأمة الكافرة بملك اليمين، ولو كانت من سبايا الحرب، وراجعي في ذلك الفتوى رقم: 50902.
وأما مسألة الفرق بين الزوجة وملك اليمين في الجمع بين أكثر من أربع نسوة: فراجعي فيه الفتويين رقم: 96456، ورقم: 62344.
والله عز وجل لم يبح للرجل أن يتزوج أكثر من أربع، وأباح له من ملك اليمين ما شاء، وهو سبحانه الرب الخالق المالك الحكيم العليم: لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
والله أعلم.