عنوان الفتوى : حكم من قال: "أنت طالق" بينه وبين نفسه وأصيب بوسواس التلفظ
أصبت بالوسوسة في الطلاق بعد أن تحدثت بالطلاق، وقلت: "أنت طالق" بيني وبين نفسي بصوت غير مسموع، ولا أقصد زوجتي، وعندما أحاول أن أكرر المشهد ثانيًا حتى أتذكر هل حركت لساني وشفتي أم لا؟ فتارة أحس كأنني لم أحرك لساني، وتارة أحس كأنني أحركه, ثم في هذه الأيام بدأت أحس كأنه خرج صوت مع هواء النفس، ثم بعد ذلك في نفس اليوم أخذت أقرأ أحكام الطلاق، ومتى يقع؟ ونحو ذلك، وقرأت أنه لا بد من سماع الصوت أثناء التلفظ، وعندما قرأت قول ابن قدامة -رحمه الله-: "وإن طلق ثلاثًا بكلمة واحدة، وقع الثلاث، وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وأنس، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين، والأئمة بعدهم ـ أخذت أتخيل مع نفسي ماذا إن صدر مني هذا الكلام لزوجتي؟ وماذا سيكون الموقف؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالشيطان عدو الإنسان، فلنتخذه عدوًا استجابة للتوجيه الرباني في قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {فاطر:6}.
ومثل هذه الوساوس من كيده، ومكره بالإنسان؛ لينكد عليه حياته، وليحزن قلبه، ويجعله في هموم، وغموم، وأحزان، فينبغي أن تستحضر هذا المعنى؛ لتقلب عليه ظهر المجن، وتعكس الصورة، فتعمل على إغاظته بالإعراض عن وساوسه إعراضًا تامًا، والاستعاذة بالله القوي العزيز من كيد الشيطان الضعيف المهين، وقد ذكرنا في الفتوى رقم: 3086، بعض وسائل علاج الوسواس القهري.
وإذا وجدت أنك في حاجة إلى مقابلة طبيب نفسي يصف لك بعض العقاقير التي يمكن أن تهدئ من روعك، فافعل، وتحرَ الطبيب الموثوق ذا الخبرة، ومن وصل به الحال في الوسواس إلى هذه الدرجة التي أنت فيها لا يقع طلاقه، قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق: وعن الليث: لا يجوز ـ أي: لا يمضي ـ طلاق الموسوس، يعني المغلوب في عقله، وعن الحاكم: هو المصاب في عقله إذا تكلم تكلم بغير نظام. اهـ.
قال الإمام الشافعي في كتاب الأم:... ومن غلب على عقله بفطرة خلقة، أو حادث علة، لم يكن لاجتلابها على نفسه بمعصية، لم يلزمه الطلاق، ولا الصلاة، ولا الحدود، وذلك مثل المعتوه، والمجنون، والموسوس، والمبرسم، وكل ذي مرض يغلب على عقله ما كان مغلوبًا على عقله. اهـ.
قال صاحب التاج والإكليل المالكي: سمع عيسى في رجل توسوسه نفسه فيقول: قد طلقت امرأتي، أو يتكلم بالطلاق، وهو لا يريده أو يشككه، فقال: يُضرِب عن ذلك يقول للخبيث: صدقت، ولا شيء عليه، ابن رشد: هذا مثل ما في المدونة أن الموسوس لا يلزمه طلاق، وهو مما لا طلاق فيه؛ لأن ذلك إنما هو من الشيطان، فينبغي أن يلهى عنه، ولا يلتفت إليه. اهـ.
ويقين بقاء العصمة لا يزول بالشك في الطلاق؛ للقاعدة الفقهية المعروفة: اليقين لا يزول بالشك، وما دمت على هذه الوسوسة، فلا تقرأ في مسائل الطلاق، ولا تسأل أحدًا حتى تبلغ العافية، فإن ذلك يزيدك بلاء، وشكًّا، ووسوسة، نسأل الله لنا ولك السلامة، والعافية من كل سوء.
وبالنسبة لتلفظك بالطلاق قبل استحكام الوسواس، وصدور ذلك منك بلفظ غير مسموع: فإن جمهور الفقهاء على أنه لا يكفي مجرد حركة اللسان من غير أن يسمع نفسه، وقد أخذت دار الإفتاء المصرية هذا حيث قالوا: فلو طلق بحيث صحح الحروف، ولكن لم يسمع نفسه لا يقع طلاقه. اهـ.
والله أعلم.