عنوان الفتوى : ضوابط شرعية في علاقة المسلم بغير المسلم
جزاكم الله خيراً، ونفع بكم، وجعل عملكم خالصاً لوجهه سبحانه، سؤالي حول قوله تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ـ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ـ وقوله تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ـ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ـ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ـ أجد صعوبة في التعامل مع غير المسلمين، حيث إنني لا أعلم حدود تلك المعاملات وما هو الشعور الذي ينبغي والذي لا ينبغي أن أشعر به تجاههم؟ فأنا أتفهم أنه لا يجتمع حب الله ورسوله والتودّد إلى من يكذب على الله ورسوله، ولكن كيف أجمع بين هذا وبين حب الخير لهم: وهو هدايتهم إلى الإسلام؟ من خلال بناء جسور ثقة بيننا وبينهم لتقريب المسافات حتى يتسنّى لنا ولهم معرفة دين الله الحق دون أحكام مُسبقة أو عقول مغلقة وقلوب مشحونة بأحكام مُسبقة دون دراسة مُتأنية أو معرفة أصيلة بأصول ديننا، بل وحتى دينهم التي تدعو إلى التوحيد الخالص والإيمان بآخر الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وتلك الجسور قد تُظهر مودة ظاهرة ـ متمثلة في التداخل معهم لاقتناص الفرصة لفتح حديث عن الإسلام وعن معتقدهم الباطل ـ أو مودة باطنة متمثلة في إرادة حب الخير لهم وإكمال رسالة الرحمة التي بُعث بها ولأجلها صلى الله عليه وسلم وإنقاذهم من النار، كما كان يفعل صلى الله عليهم وسلم مع كفار قريش عسى أن يخرج منهم من يُوحّدون الله، كذلك ما هو الفرق بين المودة المذكورة في الآيات و بين إرادة الرحمة بهم؟ فأنا أجد صعوبة في الجمع بين عدم إلقاء المودة تجاههم وبين إرادتي أن أدعوهم لدين الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن وإرادتي لهم الهداية، فإن مثل هذه المناظرات قد يتطلب وجود تعاملات وتداخل بين المسلمين وغير المسلمين حتى تكون هناك فرص لعرض الحق ومناقشة معتقد الباطل، وأيضاً قد قرأت عدة فتاوى لا تُجيز البدء بإلقاء السلام على غير المسلمين، وقد توقفت عن البدء بإلقاء السلام على غير المسلمين، وقد كنت أفعله لا لشيء إلا لإظهار هويتي الإسلامية وإجبار غير المسلمين على استخدامها، بالإضافة إلى إفشاء السلام على من عرفت ومن لم أعرف، وربما لتكون وكزة في عقول غير المسلمين ليتفكروا قليلاً عن الإسلام، حيث إنني ـ كما ذكرت ـ أجد صعوبة في إيجاد الفرص لفتح حديث معهم حول هذا الأمر للأسباب السالف ذكرها، ولكن غير هذا وذاك وقفت على عدة آيات تشير إلى خلاف الفتاوى المذكورة قول إبراهيم لأبيه في قوله تعالى: قال سلام عليك سأستغفر لك ربي ـ وقوله تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ـ وقوله تعالى: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ـ وغيرها من الآيات، من قراءتي لتفسيرات تلك الآيات، علمت أن السلام هو كقول الرجل للرجل اذهب بسلام، أو هو التأكيد على عدم السباب أو المعاملة السيئة بالمثل، ولكن سؤالي هو: إذا كان رد المؤمنين على الكافرين بكلمة: سلام عليكم ـ وهم يؤذونهم ألا يجدر أن يكون إلقاء السلام على من لا يؤذون أولى؟ وأيضاً إذا كان هناك أدلة من القرآن أو السنّة تؤكد عدم جواز البدء بالسلام على غير المسلمين أرجو ذكرها، لأن هذه الآيات التي ذكرتها وغيرها قد تدل على غير ذلك وإن اختلف المفسرون في تفريقها عن سلام المسلم على المسلم، فأنا أذكر أن تحية السلام هي أحد حقوق المسلم على المسلم، ولكن لا أجد ما يؤكد: عدم جواز ـ البدء بها مع غير المسلم وهي صفة من صفات عباد الرحمن والأنبياء، كما تشير إلى ذلك عدد من الآيات. وجزاكم الله خيراً.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فينبغي التفريق أولا بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فالمحبة والمودة من أعمال القلوب، ولا يجوز أن تجعل لكافر. وأما المعاملة الحسنة والبر والعدل والإحسان والأخلاق الصالحة: فهذه من أعمال الجوارح التي تبذل لجميع الخلق على حسب مراتبهم وأحوالهم، قال ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق في مسألة الولاء والبراء، والتكفير، والتفسيق، وما يتعلق بذلك: وفي هذا فروع مفيدة، الأول: أن هذا كله في الحب الذي هو في القلب، وخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم، وتوحيدهم عند أهل السنة، كما يأتي، وأما المخالفة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك، فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة، كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب، كما أشارت إليه الآية: لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين. اهـ.
ثم إن أعمال القلوب إذا اختلف موجبها ومتعلقها اختلف حكمها، فمحبة الكافر لملته، أو لصفة دينية فيه، أمر محرم بالإجماع، بخلاف ما إذا اقتصر الأمر على مقتضيات الجبلة، والمحبة الطبيعية غير الدينية، كمحبة الوالد لولده، والقريب لقريبه، والزوج لزوجه، وكالمحبة بسبب المعاملة الحسنة، أو لما يقدمه الكافر من علم، أو نفع للناس ـ فهذه المحبة الطبيعية التي تمليها الجبلية البشرية، والفطرة الإنسانية ـ لا تحرم، إلا أنه يجب أن يصاحبها البغض لهم في الدين والبراءة من كفرهم، وهذا لا يتعارض مع محبة الخير لهم والحرص على هدايتهم والتلطف في دعوتهم للحق وبيانه لهم، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 235903، وما أحيل عليه فيها.
وأما مسألة بدء الكافر بالسلام: فهي محل خلاف بين أهل العلم، وقد احتج القائلون بجواز ابتدائهم بالسلام بنحو ما ذكره السائل، كقول الله تعالى حكاية عن إبراهيم لأبيه: سلام عليك ـ وقوله تعالى: فاصفح عنهم وقل سلام {الزخرف:89}.
وقيد هذا بعض أهل العلم بالحاجة والمصلحة، كالجوار والصحبة في السفر، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 17051، ورقم: 6067.
فالمسألة محتملة، وليس فيها إنكار على المخالف، وأما المانعون فاستدلوا بالسنة، فقد ورد في ذلك عدة أحاديث، منها حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام. رواه مسلم.
وحديث أبي عبد الرحمن الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني راكب غدا إلى اليهود، فلا تبدءوهم بالسلام، فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم. رواه ابن ماجه وأحمد، وروى البخاري في الأدب المفرد نحوه من حديث عن أبي بصرة الغفاري، وصححهما الألباني.
وكذلك رد سلام الكافر إذا تحقق المسلم من نطقه بالسلام، اختلف فيه أهل العلم، والأرجح هنا جواز رده بقول: وعليك السلام، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: لو تحقق السامع أن الذمي قال له: سلام عليكم، لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أو يقتصر على قوله: وعليك ـ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة: أن يقال له وعليك السلام فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. اهـ.
وقال ابن عثيمين: قال بعض العلماء: إننا إذا علمنا أن غير المسلم سلم على المسلم بلفظٍ صريح فقال: السلام عليك ـ فإنه لا حرج أن نقول: عليك السلام، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين العلة في كوننا نقول في الرد: وعليكم ـ بأنهم كانوا يقولون: السام عليكم. اهـ.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 21363.
والله أعلم.