عنوان الفتوى : امتلأ قلبها بالوساوس بسبب زواج زوجها عليها وتريد الخلع
هل يشرع أن تطلب المرأة الطلاق إذا تزوج عليها زوجها ، وكانت شديدة الغيرة ، وحساسة ولا تتحمل ذلك ، وكانت تخاف أن تفتن في دينها من شدة ذلك ، لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام بمنع علي من التزوج على فاطمة رضي الله عنهم ؟ وهل هذا دليل على إنما يتزوج الرجل على المرأة الناقصة لحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام فيما معناه اكتمل أربع من النساء آسيه ومريم وخديجة وفاطمة رضي الله عنهم الرجا ء الجواب بمصداقية ؟ لأني أشعر بالألم ، وفؤادي محترق ، أبكي بالليل والنهار ، وشهيتي مقفولة ، وانتكست ، وتركت النوافل ، وقيام الليل ، كنت قبل فترة أقبل التعدد ، ولكن كلما أتذكر الآن حديث الرسول عليه الصلاة والسلام فيما معناه نهيه علي عن التزوج على فاطمة رضي الله عنهم ؛ لأنها بضعة منه وما (يؤذيها) (يؤذيه) فيه دلالة صراحة على أن الزواج على الزوجة (أذى) لها ، وإن كان فيه المصلحة بالنسبة للرجال ، فإذا كانت لا ترضاه سيدة نساء العالمين فهل يحق لنا أيضا؟ ثم إن زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن نقارن أنفسنا فيهن فهن زوجات نبي الأمة عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة ، أي إن هذا لا يمكن أن يَصْب إلا في صالحهن.. أما نحن فماذا نستفيد ؟ ثانيا : إني أجد في قلبي ما لا يقال أبدا ، وأخاف أن هذا نقض إيماني حقا ، وأسئلة تعاودني بلا جواب فهل علي توبة ؟ وماذا أفعل لأطهر قلبي ؛ لأني أتوب ثم يرجع قلبي محروق ، وأتكلم بكلام لا يليق داخل نفسي ، وأشعر أن هذا ليس له نهاية ؟ وهل علي إثم بهذا السؤال؟ وكيف أعرف إذا لُعِنت؟ وهل أعمالي لا تقبل الآن ، أرجو الجواب على كل تساؤلاتي بالتفصيل ؛ حتى يسلم قلبي .
الحمد لله
أولا :
التعدد حق شرعه الله تعالى للرجل بقوله تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ
مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا )
النساء/ 3 .
وفيه من الحِكَم ما لا يخفى ، فأنت بما حباك الله تعالى به من نعمة الزوج ، ربما لا
تدركين ما تتجرعه المرأة العانس التي لم تتزوج ، أو الأرملة والمطلقة التي صارت بلا
زوج ، فلماذا تبخلين بفضل الله تعالى على أخت لك مسلمة ؛ تشاركك في زوجك ، وبهذا
يندفع عنها ألم الوحشة ومرارة الوحدة .
في حين أنك لن تفقدي زوجك بذلك ، ولا ينبغي أن تتركيه ، غاية ما هنالك أن نصيبك منه
سوف يكون أقل من ذي قبل ؛ هكذا إذا كان الأمر قاصرا على الحساب العاجل ، ومقاييس
المكسب والخسارة المادية .
لكن الأمر سوف يختلف إذا كنت ستحتسبين عند الله تعالى هذا الوقت والمال الذي سيخص
به زوجك زوجته الأخرى ، وترجين من الله الخلف عما فاتك ، والبركة والفضل فيما آتاك
.
إننا يا أمة الله نخاطب فيك الإيمان ، ونخاطب فيك العقل ، فلا يستفزنك الشيطان فيحملك على طلب الطلاق أو الخلع ، فتصيرين بلا زوج ، وتضيعين أسرتك وأولادك إن كنت ذات ولد ، ثم تنقشع عنك سكرة الغضب والغيرة ، فتجدين نفسك قد خسرت ما لعلك تعجزين عن تعويضه مدى الحياة !!
إن الطلاق مهما كان سببه – وقعه على المرأة شديد ، وتأثيره على المرأة في
علاقاتها الاجتماعية ، ونظرة المجتمع لها شديد ، لا تتحمله أكثر النساء .
ولا يرتاب عاقل في أن صبر المرأة على التعدد خير لها وأهون من صبرها على أن تعود
إلى بيت أهلها ، ثم تبقى هكذا بلا زوج ، في غالب حالها ؛ وقد كانت العرب تقول : زوج
من عُود ؛ خير من قعود !!
ولسنا نقول : إن التعدد لن يؤثر عليك بشيء مطلقا ، ولكننا نقول : إن بإمكانك أن
تتعايشي مع هذا الوضع الجديد ، وتتكيفي معه ، وتندمجي من خلاله في حياتك الطبيعية ،
كما عاش النساء دهرهن قبلك ، وكما سيعشن بعدك إلى ما شاء الله .
وإنما يمكنك أن تفعلي ذلك ، متى استعنت بالله تعالى ، وتكلفت الصبر والتحمل ، حتى
ييسر الله لك أمرك ، ويكشف غمك ، ويصلح شأنك ، ويبارك لك في زوجك وأسرتك ، وبيتك .
وتأملي ـ يا أمة الله ـ في عاقبة الطلاق ، فلن تكون أهون مما أنت فيه ، إذا تدبرت في أمرك بحكمة وروية ، وعلمت حال كثير ممن طلبن الطلاق بسبب ذلك ؛ وكيف أنهن قد ندمن على ذلك كل الندم ، وتمنين أن لم يكنَّ قد فعلن ذلك ؛ ولكن بعد فوات الأوان ، وركوب متن العناد والشطط ، وطاعة الغضب الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يوقع صاحبه إلا في الشر .
والنصيحة لك أن تستعيني بالله تعالى ، وتقفي بين يديه سبحانه في ليل طويل
تتضرعين وتبثين شكواك إليه ، وهو سبحانه القادر على أن يذهب عنك ما مسك الشيطان به
من نصب وعذاب ، قال تعالى لنبيه الكريم : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا . وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا)
الإنسان/ 24، 26 .
وقال جل شأنه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) البقرة/ 153 " أوصى سبحانه عباده
بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين" .
انتهى من " عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين " (1 / 12).
ثانيا :
أما طلب المرأة الطلاق بسبب التعدد ، فلا يجوز ذلك ، وليس مجرد التعدد من الأسباب
التي تبيح للمرأة أن تطلب الطلاق ، فإن الله تعالى أباح للرجل التعدد مع ما يصيب
المرأة منه من هم وضيق .
لأن الإسلام ينظر في هذا إلى المصالح العامة المتعلقة بالمجتمع والتي تترتب على
التعدد ، فتلك المصالح تقدم على مصلحة المرأة في الانفراد بزوجها .
وليست مصلح التعدد راجعة إلى الرجل وحده – كما ذكرت في سؤالك – وإنما هي مصالح
للمجتمع كله .
فلو أبيح للمرأة أن تطلب الطلاق بسبب ذلك ، لكان في هذا مضادةٌ للحكمة التي أرادها
الله من مشروعية التعدد ، وتضييعٌ لها .
ولكننا قدمنا في السؤال رقم : (186325) أن المرأة إذا لم تستطع أن تتحمل ذلك وخشيت
أن لا تؤدي حق زوجها فيجوز لها طلب الطلاق .
وينظر أيضا للفائدة جواب السؤال رقم : (165543) .
ولكن هذا ليس هو الحالة المرضية ولا الطبيعية ، وإنما هو من أجل قصور المرأة وقلة
صبرها ، فهذه حالة استثنائية لا ننصح بها المرأة ، ثم لا تدري لعلها تطلب الطلاق ،
ثم يتبين لها بعد فوات الأوان أن ما كانت فيه أهون مما صارت إليه .
ثالثا :
أما منع النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب من الزواج على ابنته فاطمة رضي
الله عنها ، فهذا لا يصح الاستدلال به لكل امرأة ، وإنما هو لخصوصيةٍ لفاطمة رضي
الله عنها ، ولخصوصيةٍ لأبيها عليه الصلاة والسلام ، فليست أذيته وأذيتها كأذية
سائر الناس ، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم : (162287).
وأما قولك ، عن تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك : " لا يمكن إلا
أن يصب في صالحهن " ؟ ؛ فيقال فيه : إن هذا مجرد دعوى ، ودعوى غريبة أيضا ، لم تعرف
أن حقيقة النساء واحدة ، وأن الغيرة من ذلك الأمر : هي أمر عام مشترك في النساء
جميعا ؛ وإلا فاسألي نفسك يا أمة الله : أي مصلحة لزوجة من زوجات النبي صلى الله
عليه وسلم في أن يتزوج عليها ، ويقل نصيبها من قسمه ، ويضعف حظها من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؟
وأي امرأة أحق بالغيرة على زوجها ، والحرص عليه ، والشح بكل لحظة تفوتها منه ؛ من
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ؟
لكنه : الدين الذي يعصم ، يا أمة الله !! والرضا بالله ، وبما شرعه لعباده ؛ وهذا
هو الفرق حقا ، وهو ما نريد أن نهرب منه ، ولا نتحمله مشقة الجهاد فيه ، والصبر
عليه .
وأما قولك : " وأما نحن فماذا نستفيد ؟ " ، فالجواب عنه : أننا نستفيد التسليم لأحكام الله تعالى والرضا بها ، وعدم الاعتراض عليها ، وكفى بها من فائدة ، فإن هذا هو حقيقة الإسلام وأصل الإيمان .
نعم كراهية المرأة لزواج زوجها بأخرى أمر طبيعي وفطري ، لكن الألم والكراهة
الطبيعية شيء ، والتسليم لأمر الله وشرعه ، والرضا به ربا ، وبنبيه رسولا ،
وبالإسلام دينا : شيء آخر .
وقد نص أهل العلم ـ كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى ـ على أنه " ليس من شرط
الرضى ألا يحس بالألم والمكاره ، بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ، ولهذا أشكل
على بعض الناس الرضى بالمكروه وطعنوا فيه وقالوا : هذا ممتنع على الطبيعة وإنما هو
الصبر ، وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهية وهما ضدان ؟
والصواب : أنه لا تناقض بينهما ، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى ,
كرضى المريض بشرب الدواء الكريه ، ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر ، بما يناله من
ألم الجوع والظمأ ، ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها" .
انتهى من "مدارج السالكين" (2/175) .
وبهذا تعلمين أن ما تجدين في صدرك من ضيق وحرج : هو أمر طبيعي فطري ، ما لم يصاحبه تسخط على أحكام الله تعالى ، أو كراهية لها ، أو يحملك ذلك على فعل شيء محرم , وقد سبق بيان هذه المسألة بالتفصيل في الفتوى رقم : (148099).
وأنت إن شاء الله لا يظهر منك – كما هو واضح من السؤال – كراهة لأحكام الله ، بل الواضح أنك فقط تعانين من الجزع ، وقلة الصبر وضيق الصدر ,،وتخافين أن يجرك هذا إلى المكروه من الاعتراض على أحكام الله جل وعلا ، وهذه المخاوف علامة الإيمان .
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن كراهية هذه الوساوس من علامات الإيمان
وذلك فيما أخرجه مسلم (132) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " جَاءَ نَاسٌ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ : إِنَّا
نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ؟ قَالَ :
( وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ ) ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ: ( ذَاكَ صَرِيحُ
الإِيمَانِ ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان ، وبوساوس
الكفر التي يضيق بها صدره . كما قالت الصحابة : يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه
ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. فقال : ( ذاك صريح
الإيمان ). وفي رواية : ما يتعاظم أن يتكلم به. قال : ( الحمد الله الذي رد كيده
إلى الوسوسة).
أي : حصول هذا الوسواس ، مع هذه الكراهة العظيمة له ، ودفعه عن القلوب : هو من صريح
الإيمان ، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه ، فهذا عظيم الجهاد" .
إلى أن قال : " ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعُبَّاد من الوساوس والشبهات ، ما ليس
عند غيرهم ، لأنه (أي الغير) لم يسلك شرع الله ومنهاجه ، بل هو مقبل على هواه في
غفلة عن ذكر ربه ، وهذا مطلوب الشيطان ، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة
، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله تعالى " انتهى ملخصا من " مجموع الفتاوى " (7 /
282) .
فمجرد هذه الوساوس لا تضرك إن شاء الله تعالى ، وينبغي إذا عرضت لك أن تستعيذي بالله تعالى من الشيطان الرجيم ، وأن تقطعي التفكير فيها .
ويراجع الفتوى رقم : (12315).
والله أعلم.