عنوان الفتوى : المحرم من الظن، وحكم سوء الظن بالله
يا أهل الخير أنتم لم تجيبوا بما يشبعني في سؤالي عن سوء الظن في الفتوى رقم: 2456921، أنا أريد أدلة من قال حرام إن تحدث به وأريد أدلة من قال يأثم وإن لم يتحدث؟ وهل ظن السوء بالله لا بد أن تحدث به وإلا لم تأثم به، أم يكفر بذلك؟ وقول سفيان الثوري في سوء الظن بالمسلم أليس بكاف لحسم هذه المسألة؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنك قد سألت عن قول سفيان الثوري: الظن ظنان: أحدهما إثم وهو أن تظن وتتكلم به، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم.
وهذه المسألة مختلف فيها، فقد منع بعض العلماء إساءة الظن بمن ظاهره الصلاح حتى ولو لم يتكلم الشخص بما ظنه، ومن الأدلة على ذلك عموم النصوص الناهية عن سوء الظن والتي لم تقيد المنع بعدم النطق، ومن ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ {الحجرات:12}
وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن عباس في الآية: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن إلا خيراً.
وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده! لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيراً.
وهذا في مجرد الظن الذي لم يخرج على اللسان، وقد عرف الخطابي الظن السيئ بقوله: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس، فإن ذلك فوق ما يملك الإنسان التحكم فيه. اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم: مراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب، ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به، كما سبق في حديث: تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة، ما لم تتكلم أو تعمد ـ وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر، ونقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم. اهـ.
وقد رجح الخادمي في بريقة محمودية ما ذهب إليه سفيان فقال: إنما يحرم الظن إذا ظهر أثره أثر الظن، على الجوارح باغتياب ونحوه، قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: الظن ظنان، أحدهما إثم وهو أن تظن وتتكلم به، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن بقلبك فقط ولا تتكلم به, وهذا عدم الحرمة ما لم يظهر أثره على الجوارح هو المختار عند المصنف والشيخ أكمل الدين، خلافا للغزالي. اهـ.
وقد حمل القرطبي النهي على ما تضمن الاتهام، فقال في تفسيره: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ـ لفظ البخاري، قال علماؤنا: فالظن هنا، وفي الآية هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة، لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة، أو بشرب الخمر مثلًا، ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة، قوله تعالى: ولا تجسسوا ـ وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك، ويبحث عنه، ويتبصر، ويستمع لتحقق ما وقع له من تلك التهمة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر كان حرامًا، واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر، والصلاح وأونست منه الأمانة في الظاهر فظن الفساد به، والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب، والمجاهرة بالخبائث.... اهـ.
وأما سوء الظن بالله تعالى: فهو ليس كفرا لكنه كبيرة، كما صرح به أهل العلم وهو من شيم المنافقين فقد قال الفقيه ابن حجر في الزواجر: الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ، أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَقَالَ عَزَّ قَائِلًا: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ {الحجر: 56} وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ـ قَالَ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ. انتهى.
والله أعلم.