أرشيف المقالات

مجرد.. ‏أنتي-فايرس‬ - محمد علي يوسف

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
من الأشياء المألوفة لدى المتعاملين مع أجهزة الكمبيوتر، ذلك الحول الذي يصيب البرامج المضادة للفيروسات (antivirus).
برنامج (الأنتي-ڤايرس) الموضوع على جهاز الكمبيوتر لحمايته؛ يتعرف أحيانا على بعض البرامج الأخرى الموجودة في الجهاز على أنها فايروسات ضارة رغم أنها في الحقيقة ليست كذلك! 
بعدها يصدر البرنامج إنذاره الشهير؛ ويمحو تلك البرامج من تلقاء نفسه؛ أو يصدر رسائله المتكررة مطالبا مستخدم الجهاز بالمسارعة بمحو تلك الفايروسات المتوهمة.

يشتهر حدوث هذا الخطأ مع ملفات تعرف باسم (الكراك)؛ ويرجع ذلك الخطأ إلى الطبيعة الآلية التي تتعامل بها برامج الأنتي-فايرس؛ فلا تفرق بين الأشباه ولا تميز بين النظائر؛ فتخلط بين تلك الأشياء التي تملك بعض الخواص المشتركة.
جسم الإنسان أيضا يصاب أحيانا بحالات شبيهة تصيب جهازه المناعي؛ فلا يحسن التعرف على العدو ولا يفرق بينه وبين الصديق، ويظهر ذلك بوضوح عند زراعة عضو ما، فتتعرف عليه الخلايا المناعية بالجسم على أنه جسم غريب؛ وتبدأ في لفظه ومحاولة طرده؛ لذلك يعطون أدوية مثبطة للمناعة للمريض الذي قام بعملية زرع عضو تفاديا لذلك النفور والحرب المتوقعة من الجهاز المناعي.
وقد يحدث الأمر مع أعضاء الجسم نفسه فيما يعرف بأمراض المناعة الذاتية Autoimmune disease وهي مجموعة من الأمراض تزيد في بعض الإحصاءات عن ثمانين نوعا، وتشير التقديرات إلى أن أمراض المناعة الذاتية هي من أبرز عشرة أسباب للوفاة خصوصا بين النساء .
هذه الأمراض المناعية الذاتية تحدث نتيجة فشل الجهاز المناعي في التعرف على الأعضاء والأجزاء الداخلية الخاصة به؛ حيث لا يميز البصمة الوراثية ولا الطبيعة الخاصة بخلايا الجسم؛ فيتعامل معها كأنها غريبة عنه ويبدأ بمهاجمتها وإعلان الحرب عليها؛ تماما كما يهاجم الفايروسات والأمراض التي تقتحم الجسم باستخدام خلايا المناعة والأجسام المناعية.
يسبب ذلك أضرارا شديدة بالجسم قد تتركز في عضو واحد أو قد تهاجم مجموعة من الأعضاء فيسبب مرضا أو متلازمة أمراض.
فإذا هاجم جهاز المناعة مثلاً صمامات القلب ، تحدث حالات حالات الحمى الروماتيزمية (Rheumatic fever) وقد يهاجم المفاصل فيشوهها مسبباً الداء الرثياني أو الروماتويد Rheumatoid arthritis وقد يهاجم جهاز المناعة أكثر من عضو بالجسم في الوقت نفسه، كما في مرض الذئبة الحمراء .Systemic Lupus erythematosus
هذا الكلام الذي قد يبدو للبعض معقدا أو تخصصيا لا يلزمهم معرفة تفاصيله؛ أراه مهما لفهم تلك الحالة التي وصل إليها كثير منا اليوم، حالة فقدان القدرة على التمييز واستسهال صناعة القوالب العدائية الجاهزة التي تسع كل الأشباه والنظائر لمجرد اشتراكهم في جانب أو جوانب!
المصابون بتلك الحالة من فقدان التمييز والتفريق ليس لديهم بدائل كثيرة، فقط بضعة قوالب محدودة وسلال معدة لإلقاء كل من يختلف معهم فيها؛ بمجرد أن تسول له نفسه أن يبدي اختلافه، ولهذه السلال والقوالب عناوين قليلة لا ينجو منها من قرر أن يختلف أو يكون له رأي مغاير لما قرره فاقدوا التمييز من كل اتجاه.
نعم..
لكل اتجاه في واقعنا المعاصر عناوينه المحدودة والمعدودة التي يُقَوْلب فيها خصومه ومخالفيه، وبمجرد إبداء ذلك الخلاف يقذف بهم إلى تلك السلال المعدة مسبقا، لمن تعرف عليهم جهاز استشعاره (غير الدقيق)؛ وصنفهم على أنهم أعداء وقرر أن يلبسهم أثواب اتهاماته ويلفظهم من تلك الحياة التي قرر أنها مناسبة للواقع الذي يراهم لا يستحقون العيش فيه.
- إنت بتقول كذا يبقى أكيد إنت مرجيء؛ لأ لأ أكيد إنت صحوات.. 
- مرجيء إزاي وصحوات مين؟؟ أكيد إنت تكفيري
- إنت بتقول تكفيري؟؟ تبقى أكيد كافر مرتد
سهلة أهي ومافيهاش تعقيد
- مش تكفيري تبقى كافر
أو خاين.. 
أو عميل.. 
أو عدو الوطن
أو متطرف
لأ حزبي محترق
بل تاجر دين
أو بائع للدين متخلٍ عن المباديء
وهكذا تتوالى التهم المعلبة والأوصاف المقولبة الجاهزة؛ ويجد المرء نفسه يرتدي ثوبا ألبسه إياه مخالفه في لحظات، ليس مهما أن تكون أثواب اتهاماته فضفاضة لا تناسب الآخرين ولا تفرق معه تلك الفوارق التي قدر الله أن تكون بين خلقه، المهم أنه لاحظ شبها بينهم، فليصدر إذاً برنامجه الضيق حكمه وليقرر أن مكانهم سلة من تلك السلال المعدودة؛ وبسرعة فليس لديه الوقت ولا القدرة على استئناف النظر أو مراجعة الحكم أو تغييره!
المناعة الذاتية التي أصيب بها فكره لا توفر له ترف التمييز؛ ولا تسمح له إلا بهذا التصنيف الآلي الممل الذي يؤهله بجدارة لأن يصير في نهاية المطاف مجرد...
أنتي-فايرس‬.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢