عنوان الفتوى : تفسير قوله تعالى: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
قلتم إن الآية: يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم ـ وقت العمل بها لم يأت بعد، لأننا نرى خلاف ذلك في عصرنا، ولكن هذا يمكن أن يكون في بلادكم التي تعيشون فيها، وفي بلدي خاصة في الشوارع والأسواق والمواصلات يكثر سب الدين والمعاصي والفجور والتبرج، وإذا قلت لأحد اتق الله فلا أستبعد أن يقتلك، فما قولكم؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمما ورد في هذه الآية حديثان:
ـ الأول: عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ـ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. رواه الترمذي، وقال: حسن غريب ـ وابن ماجه، وضعفه الألباني عدا فقرة: أيام الصبر.. فقد صححها.
وراجع الفتوى رقم: 62938.
ومحمل هذا على الحديث ـ إن صح ـ إنما هو عند غلبة الشر والفساد على عامة الناس، بحيث لا يعود للأمر والنهي فائدة، أو عند العجز ومخافة الضرر، قال ابن رجب في جامع العلوم: قد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، ففي سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني.. فذكر هذا الحديث وغيره ثم قال: وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ـ قالوا: لم يأت تأويلها بعد، إنما تأويلها في آخر الزمان، وعن ابن مسعود قال: إذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، حينئذ تأويل هذه الآية، وعن ابن عمر: قال: هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم، وقال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة، قالوا: إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك حينئذ بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وعن مكحول، قال: لم يأت تأويلها بعد إذا هاب الواعظ، وأنكر الموعوظ، فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت.... وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضرر، سقط. اهـ.
وقال القاري في مرقاة المفاتيح: حتى إذا رأيت ـ أي: أيها المخاطب خطابا عاما ـ ونكتة الإفراد انفراد المستقيم، واجتماع العامة على العدول عن الطريق القويم، والمعنى إذا علمت الغالب على الناس. اهـ.
وقال ابن علان في دليل الفالحين: لا ينافي ما تقرر من الوجوب قوله تعالى: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم {المائدة: 105} لأنه سئل عنها، فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ـ الحديث، ففيه تصريح بأن الآية محمولة على ما إذا عجز المنكِر، ولا شك في سقوط الوجوب حينئذٍ، على أن معناها عند المحققين أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به لا يضركم تقصير غيركم، ومما كلفنا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثلهما المخالف فلا عتب حينئذٍ، لأن الواجب الأمر والنهي لا القبول. اهـ.
ـ والحديث الثاني: حديث أن أبا بكر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ـ وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ـ وفي رواية: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
وهذا لا يخالف ما سبق بيانه في الحديث الأول، فقد استدل أهل العلم بقوله: ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا ـ على أن الإنكار باليد واللسان يكون بحسب القدرة، فالوجوب يسقط عند العجز وعند خوف الضرر ـ كما تقدم ـ بخلاف مجرد الأذية بالقول، قال ابن رجب: إن خاف السب، أو سماع الكلام السيئ، لم يسقط عنه الإنكار بذلك، نص عليه الإمام أحمد. اهـ.
وراجع للفائدة الفتويين رقم: 5870، ورقم: 220009.
والله أعلم.