عنوان الفتوى : مذاهب العلماء فيمن وكل غيره ببيع سلعة فباعها نسيئة
قد ذكرت لفضيلتكم في سؤال سابق أنني أعمل كصيدلي، وأحيانا عندما أبيع دواء أو غيره يكون المشتري ليس معه ما يكفي من السعر فيخبرني بين أن يذهب ويحضر الباقي أو يعطيني إياه غدا أو بعد غد، وأحيانا يكون الدواء لشخص آخر ولا يعلم أي تركيز يريد فيخبرني أنه سيذهب ليريهما للمريض ثم يأتيني بالنقود فأوافق على هذا كله من باب حسن الظن بالناس، لكن للأسف كثيرا ما يتم النصب علي أو خداعي فأضطر لدفع هذه الأموال من جيبي، فهل حقا يجب علي دفعها؟ وما جزاء من يفعل بي ذلك؟ ومثل هذا حدث معي في مكان آخر كنت أعمل فيه، وللأسف تركت العمل قبل أن يرد الناس إلي المال وقبل أن أسدده، ولا أدري أقام الناس بإعادة المال لصاحب الصيدلية التي كنت أعمل فيها أم لا؟ والآن لا أستطيع رده بسبب أنهم هم من رفضوني بشكل فيه ظلم وتعد علي ولا أريد أن أرى وجهوهم أو أذهب إليهم، فماذا أفعل؟ وجزاكم الله كل خير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عملك كصيدلي لدى الغير يعني أنك أجير خاص لديه مع تضمن ذلك للوكالة في بيع الأدوية. وعليه؛ فإن المرجع في ذلك إلى صاحب الصيدلية، فإن كان أذن لك في البيع بدون نقد الثمن أو في إخراج الأدوية من الصيدلية بدون رهن أو نقد ثمن فلا حرج عليك في ذلك، كما لا يلزمك ضمان تلك الأدوية المأخوذة ولا ضمان ثمنها، وذلك لأنك في عملك هذا تعتبر أجيرا خاصا ووكيلا، وكل من الأجير الخاص والوكيل أمين، فلا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط، وإن أذن في ذلك لبعض الناس دون بعضهم فيجب الالتزام بشرطه في ذلك، وانظر الفتوى رقم: 180863.
وإن كان لا يأذن في ذلك فعليك بالالتزام بعدم فعل ذلك، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: المسلمون عند شروطهم. رواه البخاري تعليقا، ورواه غيره موصولا.
فإن خالفت شرطه في ذلك فأنت مفرط، وحينئذ يلزمك الضمان إلا أن يسامحك صاحب الصيدلية، وانظر الفتويين رقم: 75739، ورقم: 59017.
وأما إن كان قد أطلق فلم يأذن ولم يمنع فقد اختلف الفقهاء فيما إذا أطلق الموكل فهل للوكيل أن يبيع بنسيئة؟ فمذهب مالك والشافعي وأحمد عدم جواز بيع الوكيل نسيئة، خلافا لأبي حنيفة، ففي الفتاوى الهندية من كتب الحنفية: الوكيل بالبيع المطلق إذا باع بأجل متعارف فيما بين التجار في تلك السلعة جاز عند علمائنا، وإن باع بأجل غير متعارف فيما بين التجار بأن باع مثلا إلى خمسين سنة أو ما أشبه ذلك فعلى قول أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ يجوز، وعلى قول أبي يوسف ومحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ لا يجوز، قال مشايخنا: وإنما يجوز البيع بالنسيئة إذا لم يكن في لفظه ما يدل على البيع بالنقد، وإذا كان في لفظه ما يدل على البيع بالنقد لا يجوز البيع بالنسيئة وذلك نحو أن يقول: بع هذا العبد واقض ديني، أو قال: بع فإن الغرماء يلازمونني، أو قال: بع فإني أحتاج إلى نفقة عيالي، ففي هذه الصور ليس له أن يبيع بالنسيئة، كذا في المحيط.
وفي المدونة: قلت: أرأيت رجلا وكلته يبيع لي سلعة أيجوز أن يبيعها بنسيئة؟ فقال: لا، قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم لأن المقارض يدفع إليه المال قراضا فلا يجوز له أن يبيع نسيئة, فكذلك الموكل لا يجوز له ذلك إلا أن يكون قد أمره بذلك.
وفي الأم للشافعي: وإذا دفع الرجل إلى الرجل سلعة فقال: بعها ولم يقل بنقد ولا بنسيئة ولا بما رأيت من نقد, أو نسيئة، فالبيع على النقد، فإن باعها بنسيئة كان له نقض البيع بعد أن يحلف بالله ما وكل أن يبيع إلا بنقد، فإن فاتت فالبائع ضامن لقيمتها، فإن شاء أن يضمن المشتري ضمنه، فإن ضمن البائع لم يرجع البائع على المشتري، وإن ضمن المشتري رجع المشتري على البائع بالفضل مما أخذ رب السلعة عما ابتاعها به، لأنه لم يؤخذ منه إلا ما لزمه من قيمة السلعة التي أتلفها إذا كان البيع فيها لم يتم.
وفي المغني لابن قدامة الحنبلي: وإن عين له الشراء بنقد أو حالا, لم تجز مخالفته، وإن أذن له في النسيئة والبيع بأي نقد شاء, جاز، وإن أطلق, لم يبع إلا حالا بنقد البلد، لأن الأصل في البيع الحلول, وإطلاق النقد ينصرف إلى نقد البلد، ولهذا لو باع عبده بعشرة دراهم وأطلق, حمل على الحلول بنقد البلد، وإن كان في البلد نقدان, باع بأغلبهما, فإن تساويا, باع بما شاء منهما، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وصاحباه: له البيع نساء، لأنه معتاد فأشبه الحال، ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على الرواية في المضارب, وقد ذكرناها، والأول أولى، لأنه لو أطلق البيع حمل على الحلول فكذلك إذا أطلق الوكالة فيه, ولا نسلم تساوي العادة فيهما, فإن بيع الحال أكثر, ويفارق المضاربة لوجهين:
أحدهما: أن المقصود من المضاربة الربح, لا دفع الحاجة بالثمن في الحال, وقد يكون المقصود في الوكالة دفع حاجة ناجزة تفوت بتأخير الثمن.
والثاني: أن استيفاء الثمن في المضاربة على المضارب, فيعود ضرر التأخير في التقاضي عليه, وها هنا بخلافه, فلا يرضى به الموكل, ولأن الضرر في توى الثمن على المضارب, لأنه يحسب من الربح, لكون الربح وقاية لرأس المال, وها هنا يعود على الموكل, فانقطع الإلحاق. (معنى توى: ذهاب المال)
وبذلك يتبين أنه يلزمك الضمان في هذه الحالة أيضا عند أكثر الفقهاء، وكذلك الحكم فيما حدث معك في المكان الآخر على ما سبق من تفصيل، فإن كنت قد فرطت فعليك الضمان أيضا إلا أن يسامحك، وإن كنت تريد تجنب مقابلته فيمكنك أن توكل من يسأله عن ذلك، وأما كون صاحب المكان قد ظلمك أو تعدى عليك، فهذا لا يبيح لك أكل ماله بغير حق، اللهم إلا إن كان هذا الظلم أو التعدي يتعلق بحقك المالي الذي لا تستطيع استخلاصه منه فحينئذ تجوز لك المقاصة بين حقك منه وبين ما يلزمك ضمانه، وهذا ما يعرف عند الفقهاء بمسألة الظفر، وقد سبق بيان مذاهب الفقهاء فيها في الفتوى رقم: 28871.
وأما هؤلاء الذين يأخذون ولا يؤدون ما عليهم من ثمن السلع فقد ورد فيهم الوعيد، ففي الحديث: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله. رواه البخاري.
قال ابن عثيمين: فإذا أخذت أموال الناس بقرض أو ثمن مبيع أو أجرة بيت أو غير ذلك وأنت تريد الأداء أدى الله عنك إما في الدنيا يعينك حتى تسدد، وإما في الآخرة، صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما المتلاعب بأموال الناس والذي يأخذها ولا يريد أداءها ولكن يريد إتلافها، فإن الله يتلفه، والعياذ بالله.
قال ابن حجر في فتح الباري: ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه، وهو علم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين، وقيل: المراد بالإتلاف عذاب الآخرة.
والله أعلم.