عنوان الفتوى : الحلف بغير الله
هل يجوز الحلِف بغيْر الله ؟
رَوَى البخاري ومسلم أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال حين سَمِع عمر يَحْلِف بأبيه : “إنَّ الله يَنهاكم أنْ تَحلِفوا بآبائكم، فمن كان حالِفًا فلْيحلِف بالله أو ليَصمت”. ورَوَى أبو داود والترمذي وقال: حسن، قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “مَن حَلِف بغير الله فقد كَفَر” وفي بعض الروايات ” فقد أَشْرَك” وفي بعضها “فقد كَفَر وأشْرَك”.
قال العلماء: إن الحَلِف الذي يجوز، وتَترتب عليه آثاره هو ما كان بالله أو بصِفة من صفاته، أمّا الحلِف بغير ذلك فهو غير مُلزِم ولا تَترتب آثار على عدم البِرِّ به، ومع ذلك فهو ممنوع كما نصَّ عليه الحديث، وجاء التغليظ بأنه خروج عن الإسلام عن طريق الكفر بالله وعدم الإيمان به، أو عن طريق الشرك، أي: ضَمّ غير الله إليه في الألوهية وما يَتْبَعها، ودرجة المنع من الحلف بغير الله مختلف فيها بين الحرمة والكراهة، يقول الشَّوكانيُّ في “نَيْل الأوطار ج 8 ص 236” : للمالكية والحنابلة قوْلان ـ أي قول بالحرمة وقول بالكراهة التنزيهيَّة ـ وجمهور الشافعية على أنه مكروه تنزيهًا، وجَزَم ابن حزْم بالتحريم، وقال إمام الحرمين: المَذهَب القاطِع بالكراهة، وجَزَم غيره بالتفصيل، فإن اعتقد في المحلوف به ما يَعتقد في الله تعالى كان بذلك الاعتقاد كافرًا.
ويُثار هنا سؤالان: الأول لماذا يَحلِف الله بالمخلوقات كالشمس والقمر والليل، والثاني كيف يَحلِف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغير الله، وقد نَهَى عنه؟
أثار ذلك الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” وخلاصة ما جاء فيه: أن لله أنْ يَحلِف بما شاء مِن خلْقه “لا يُسْألُ عمّا يَفْعَلُ” وذلك لتعظيم المحلوف به وهو ـ سبحانه ـ صاحِب الأمْر في خلْقه، وفيه لَفْتٌ لأنظارنا أنْ نَتدبر وجْه العظمة في هذا المحلوف به.
أما حَلِفُ الرسول ـ بغير الله فقد جاء في الصحيح أنه قال للأعرابي الذي أَقْسَم ألا يَزيد ولا يَنقُص عما تَعلَّمه من الرسول من الواجبات “أفْلَحَ وأبِيه إنْ صَدَقَ” وأُجِيب عنه بأجوبة:
أ ـ الطعن في صحة هذه اللفظة ـ وأبيه ـ كما قال ابن عبد البر: إنها غير محفوظة، وزَعَم أنَّ أصل الرواية “أفْلَحَ والله” فصَحَّفَها بعضُهم.
ب ـ أنَّ ذلك كان يَقَع من العرب ويَجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم أي للحلف، والنهي إنما وَرَدَ في حقِّ مَنْ قَصَد حقيقة الحلف، قاله البيهقي، وقال النووي: إنه الجواب المَرضِيُّ.
جـ أنه كان يَقع في كلامهم على وجْهين للتعظيم وللتأكيد، والنهي إنما وَرَد عن الأول وهو التعظيم.
د ـ أنَّ الحلِف بغير الله كان جائزًا، وما صَدَر من النبي كان على الجواز، ثم نُسِخ، قاله الماوَرْدِيُّ، وقال السُّهَيْلي: أكثر الشُّرَّاح عليه، قال المُنذري: دَعوَى النَّسْخ ضعيفة؛ لإمكان الجمْع بين الأمْرين المختلفين، ولعدم تَحقُّق التاريخ حتى يُعرَف السابِق من اللاحِق.
هـ أنَّه كان في ذلك حَذْف، والتقدير “أفْلَحَ ورَبِّ أبِيهِ” قاله البيهقي.
و ـ أنَّه للتعجيب، وليس قَسَمًا، قاله السُّهيليُّ.
ز ـ أنه خاصٌّ بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن يُرَدُّ على هذا بأن الخصوصيات لا تَثبت بالاحتمال، بل لابد لها من دليل، فيَبقَى الأمر عامًّا للرسول وغيره.
ثم يقول الشَّوكانيُّ: وأحاديث الباب تَدلُّ على أنَّ الحَلِف بغير الله لا يَنعقِد ـ أي لا تَترتَّب عليه آثاره ـ؛ لأنَّ النَّهي يَدلُّ على فساد المَنهِيِّ عنه، وإليه ذَهَب الجمهور.
وقال بعض الحنابلة: إنَّ الحَلِف بنبيَّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَنعقِد وتَجب الكَفّارة.
بعد هذا العرْض نَرجو ممَّن لم يَطَّلِعوا على ما قاله العلماء في الحَلِف بغير الله ألاّ يُسرِعوا في تجريم مَنْ حَلَفَ بالنبيَّ أو بغير الله بوجْه عامٍّ، فقد قال بعض الفقهاء بعَدَم الحُرْمة وبأنه مَكروهٌ كَراهَةَ تَنزِيهٍ بمعنى عدم العقوبة فيه، وأخْطر ما يكون التجريم هو الحُكم بالكُفر أو الشِّرْك على مَن حَلَف بغير الله وهو لا يريد تعظيمه كتعظيم الله، فإنَّ مَن كفَّر مسلمًا بدون وجه حقٍّ كان كافرًا، والحديث معروف في ذلك وهو: “إذا قال الرجلُ لأخِيه يا كافرُ، فقد باءَ بها أحدُهما، فإن كان كما قال وإلا رَجَعتْ عليه” رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لأبي داود والنسائي والترمذي وصحَّحه “ومَنْ قَذَف مؤمِنًا بِكُفْر فهو كَقاتِلِه” والحاكِم على الحالِف بغير الله بالكُفْر لم يَطَّلع على نِيَّتِه، وقد أَمَر الله بالتبيُّن، وقال في ذلك: (ولا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤمِنًا) (النساء : 94) وسَبَبُ نزولها معروف في سَرِيَّةٍ كان قائدُها أسامةُ بنُ زَيْدٍ.