عنوان الفتوى : أثر الدعاء على الداعي ومن دعا لهم، وسبب تخلف الإجابة
بارك الله فيكم لي أسئلة عن الدعاء: من المعروف أن الشخص عند دعائه يجب أن يكون موقنا بالإجابة، فكيف لي أن أدعو مثلا باللهم اشف جميع مرضى المسلمين وعندي علم أن الله قادر على ذلك بلا شك لكن ـ والله أعلم ـ لن يشفى الكل، لأن لله حكما كثيرة في مرض المسلمين؟ فهل هذا دعاء ممنوع ويجب علي أن أدعو لأشخاص معينين لا لعموم المسلمين؟ فما الحكمة من أمر الله عز وجل لنا أن ندعوه بالمغفرة للمسلمين والمسلمات، مع العلم أنه ثابت أن جماعة من المسلمين سوف يدخلون النار بذنوبهم ومن ثم يخرجون برحمة الله وفضله؟ فهل ورد أن الشخص المدعو له ينال ثوابا وأجرا من الله في حال دعا له شخص واستجاب الله بادخار الحسنات للداعي؟ والدعاء عند رؤية مصيبة بأحد ـ الحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به، فهل هو كباقي الأدعية من الممكن أن يستجيبه الله ب 3 أشكال من الإجابة؟ أم أن الله تكفل بتحقيق الدعاء كما هو، وكذلك عندما نقول اللهم إنا نستودعك كذا وكذا فهل هذا الاستيداع يدخل ضمن الدعاء الذي قد يستجاب له ب 3 أشكال؟ أم أن له مكانة خاصة؟ وأخيرا دعاء الخروج من المنزل هل صح أن الله يسخر ملائكة تبقى تستغفر للشخص إذا قاله عند خروجه من المنزل إلى أن يعود؟ وجزاكم الله كل الخير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية لا بد من العلم أن من حقق شروط الإجابة وانتفت عنه موانعها فدعاؤه مستجاب بلا شك، وليس معنى ذلك أن يحصل المطلوب بعينه، فإن صور الإجابة متنوعة، فإما أن يعطى ما سأل، وإما أن يصرف عنه من السوء مثله، وإما أن يدخر له في الآخرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذا نكثر! قال: الله أكثر. رواه أحمد، وصححه الألباني.
قال ابن عبد البر في التمهيد: فيه دليل على أنه لا بد من الإجابة على إحدى هذه الأوجه الثلاثة. اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح: كل داع يستجاب له, لكن تتنوع الإجابة: فتارة تقع بعين ما دعا به, وتارة بعوضه. اهـ.
فهذا هو الأصل المحكم الذي يجب استحضاره في جواب سؤالك: أن صور الإجابة متعددة، وأيها حصل فقد حصل موعود الله تعالى في قوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ {غافر: 60}.
وعلى مثل هذا النحو في حمل الآية يمكن حمل النصوص التي تفيد حصول وعد على عمل معين، كدعاء رؤية المبتلى، ودعاء الاستيداع، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 183023، ورقم: 185717.
هذا، مع التنبيه على أن أثر هذه الأدعية والأذكار يتفاوت من شخص لآخر بحسب اليقين والاستقامة وحكمة الابتلاء، وقد يكون أثرها أو بعضه خفيا لا يشعر به العبد، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وفي الجملة، فإن الله عز وجل يحفظ على المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ وقد لا يشعر العبد ببعضها، وقد يكون كارها له، كما قال في حق يوسف عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين {يوسف: 24}. اهـ.
ويحتمل أن يقال: إن ما ورد في ذكر الاستيداع، وذكر رؤية المبتلى، ونحو ذلك: أنه من باب الإخبار، فلا بد من حصوله، فإذا تخلف ذلك كان لوجود مانع أو تخلف شرط، قال الشيخ ابن عثيمين في التعليق على حديث: من نزل منزلاً، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك ـ قال: هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره، لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف، فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر، ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب، فليس ذلك لخلل في السبب ولكن لوجود مانع، مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرؤها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصوراً في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره، ومنه: التسمية عند الجماع؛ فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد، لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب. اهـ.
وقد سبق لنا بيان مدى أثر الذكر على حفظ الذاكر من المكروه في الفتوى رقم: 130963.
وأما الدعاء لعموم المسلمين بالمغفرة، أو الرحمة، أو الشفاء، أو غير ذلك: فلا حرج فيه، وهو نافع على أية حال لجميع المسلمين، أو لبعضهم، وكذلك للداعي نفسه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استغفر للمؤمنين وللمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وإسناده جيد ـ وحسنه الألباني.
قال الشوكاني في تحفة الذاكرين: في الحديث دليل على أنها تلحق بالمؤمن في استغفاره للمؤمنين والمؤمنات حسنات بعدد من استغفر له، فإن كانوا جماعة محصورين كانت له حسنات محصورة على عددهم، ومن أراد الاستكثار من فضل الله من الحسنات فليقل: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ـ فإنه يكتب له من الحسنات ما لا يحيط به حصر ولا يتصوره فكر، وفضل الله واسع. اهـ.
وينبغي هنا التنبه لكون الرحمة، أو المغفرة، أو الشفاء: مراتب، فيمكن أن تبلغ التمام، ويمكن أن تكون مخفِّفة وهذا نوع نفعٍ على كل تقدير، ومثال ذلك انتفاع أبي طالب بمناصرته للنبي صلى الله عليه وسلم انتفاعا خفف عنه العذاب، وإن كان لم يمنعه بالكلية، قال العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار. رواه البخاري ومسلم.
فكذلك الدعاء للمسلمين عموما بالرحمة، يمكن أن يخفَّف به عن مَن كان مِن أهل النار منهم، وكذلك الدعاء بالمغفرة يمكن أن تغفر به ذنوب بعضهم، ويخفف به من ذنوب آخرين، وكذلك الدعاء بالشفاء إن لم يرفع البلاء بالكلية عن جميعهم، فلا مانع أن يخفف به عنهم!!
وعلى أية حال فالدعاء لعموم المسلمين نافع بلا ريب، على أي وجه كان ذلك النفع، ثم إن الداعي إذا دعا لجميع المسلمين، فاستجاب الله دعاءه في بعضهم، واقتضت حكمته سبحانه أن يمنعه من آخرين، فهذا لا يقتضي الامتناع عن الدعاء للعموم لينفع الله به من شاء ويصرفه عن من يشاء، فهو سبحانه أعلم بمواقع الإجابة، ومواضع المنع، ويكفينا أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لعموم المسلمين، فقال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ { محمد: 19}.
وبذلك دعا الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ فقال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ { إبراهيم: 41}. ودعا به أيضا نبي الله نوح ـ عليه السلام ـ فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ {نوح: 28}.
وراجع الفتوى رقم: 197931.
وأما بقية السؤال: فليس عندنا في جوابه شيء، فلا نعلم نصا في خصوص نوال المدعو له ثوابا إذا دعا له شخص واستجاب الله بادخار الأجر للداعي، وراجع الفتوى رقم: 62807.
وكذلك لا نعلم حديثا صحيحا في دعاء الخروج من المنزل يسخر الله به ملائكة تستغفر للداعي به حتى يرجع إلى بيته.
والله أعلم.