عنوان الفتوى : التوبة مقبولة إذا تحققت شروطها
أود أن أقول لمن ران على قلبه كيف يعرف أن توبته قبلت إن تاب واستغفر، لكنه يشعر بالوحشة في قلبه وبالقساوة مع أنه شعر بالندم وترك الذنوب وتاب، فهل التوبة تكفي لإزالة الران أم لا؟ ويشعر أن الله لم يغفر له، أم هذا من سوء الظن بالله؟ ومن صعب عليه البكاء بعد ما أصبح قلبه هكذا فكيف يعلم أن الله قبل توبته؟ وهل بليونة القلب؟ وهل صحيح أن الله إذا أعرض عنه هلك؟ وهل له توبة بعد الإعراض؟ كما أرجو تفسير مقولة ابن القيم: طريق الهجرتين وباب السعادتين ـ من عرف طريقا إلى الله وأعرض عنه يعذبه الله عذابا لا يعذبه لأحد من العالمين... ويذكر كلاما مخيفا جدا جدا، فهل ليس له توبة؟ وما المقصود بالإعراض عن الله في كلامه؟ وهل من يؤدي الصلوات الخمس ومعظمها في المسجد أو أحيانا كلها لكنه غارق في ذنوب الخلوات ويتوب ويرجع، وأحيانا لا يتوب سريعا، هو معرض؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا. وشكرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تضمن سؤالك جزئيات متعددة، متداخل بعضها مع بعض، واعلم أن التوبة قد تعهد الله تعالى بقبولها ممن تاب صادقا مخلصا، وقد جعل باب التوبة مفتوحا لعباده مهما أعرضوا عنه وأعرض عنهم حتى تصل الروح الحلقوم، وأما الشعور بعدم قبولها بعد تحقق شروطها: فإنه يخشى أن يكون من سوء الظن بالله تعالى واليأس من رحمته وعدم تصديق وعده، فقد قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى: 25 }.
وقال تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {المائدة: 39 }.
وقال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً {النساء}.
وقال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {النساء:17}.
وقال عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
وقال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
وأما الران: فتزيله التوبة الصادقة المصحوبة بالاستغفار، كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { المطففين: 14}. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
ولا يشترط البكاء في قبول التوبة، كما قدمنا بالفتوى رقم: 61613.
وأما الإعراض عن الله تعالى وإعراض الله عن العصاة المعرضين عن طاعته: فهو من أخطر أسباب الهلاك، فقد قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه: 124}.
والمقصود بالإعراض عن الله وضحه ابن كثير في تفسيره، حيث قال: ومن أعرض عن ذكري ـ أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه، فإن له معيشة ضنكاً أي ضنكا في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة. اهـ.
وقد وضح ابن القيم بعض أنواع المخاطر والمهالك، فقال: فمن أعرض عن الله بالكليَّة أعرض الله عنهُ بالكليّة، ومَن أعرضَ الله عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس في أحواله وأعماله، وقارنه سوءُ الحال وفساده في دينه ومآله، فإن الرب تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النُّحُوس، وأظلمت أرجاؤها، وانكسفت أنوارها، وظهرت عليها وحشة الإعراض، وصارت مأْوى للشياطين، وهدفاً للشرور، ومصبّاً للبلاء، فالمحروم كل المحروم من عَرَف طريقاً إليه ثم أَعرض عنها، أو وجد بارقةً من حبه ثم سُلبها، ولم ينفذ إلى ربه منها، خصوصا إذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات، أو انصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات، عاكفًا على ذلك ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى، قد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه، على ذلك يصبح ويمسي ويظل ويضحي، وكان الله في تلك الحال وليه، لأنه ولي من ولاه وحبيب من أحبه ووالاه، فأصبح في سجن الهوى ثاويا، وفي أسر العدو مقيما، وفي بئر المعصية ساقطا، وفي أودية الحيرة والتفرق هائما، معرضا عن المطالب العالية إلى الأغراض الخسيسة الفانية كان قلبه يحوم حول العرش، فأصبح محبوسا في أسفل الحش... اهـ.
ومن ارتكب ذنبًا في الخلوة أو غيرها ثم تاب منه واستغفر تاب الله عليه, ولم يؤاخذ به يوم القيامة، ومن لم يتب فإذا رجحت حسناته على سيئاته فهو من أهل الجنة, وإلا فأمره إلى الله تعالى: إن شاء عذبه بقدر ذنبه, وإن شاء عفا عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك. رواه البخاري ومسلم، واللفظ له.
قال النووي: اعمل ما شئت فقد غفرت لك ـ معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك، وهذا جار على القاعدة التي ذكرناها. انتهى.
والله أعلم.