عنوان الفتوى : هل يدل قوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) على أن القرآن مخلوق ؟
هل هناك تعارض بين قوله تعالى (الله خالق كل شيء) ، وبين أن القرآن كلام الله غير مخلوق ؟
الحمد لله
اتفق أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، وأنكروا على من
قال من المبتدعة : " إن القرآن مخلوق" ، وبدَّعوهم وهجروهم ، وكثير منهم كفّر من
قال بهذه المقولة الضالة .
وكان من شبهات أهل البدعة على هذه الضلالة ، قول الله تعالى : ( اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ ) ، قالوا : والقرآن شيء ، فهو مخلوق !!
وهذا استدلال باطل ، وتحريف للكلم من بعد مواضعه .
فإن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفة من صفاته ، وصفاته غير مخلوقة ؛ لأن الصفات
تتبع الموصوف ؛ فصفات الخالق غير مخلوقة ، لأنها تتبع الخالق ، وصفات المخلوق
مخلوقة لأنها تتبع المخلوق .
وأيضاً فإن الله تعالى يقول : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ
) الأنعام/ 19 ، فأخبر عن نفسه بأنه " شيء " ؛ فهل يقال : الله مخلوق ؟!
فالمقصود من الآية : أن الله خالق كل شيء من المخلوقات ، لم يشركه في خلقها أحد
سواه ، ولا له ند ولا شريك ، ولا معين ولا ظهير في خلقه .
وإليك طائفة من أقوال أهل العلم في الرد على هذه الشبهة :
- روى الخلال في "كتاب السنة" (5/109) عن سُفْيَانَ بْن عُيَيْنَةَ قال : " مَا
يَقُولُ هَذَا الدُّوَيْبةُ ؟ - يَعْنِي بِشْرًا الْمِرِّيسِيَّ - قيل : يَقُولُ:
الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.
قَالَ: " كَذَبَ ، أَخْزَاهُ اللَّهُ ، إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء ٍ،
وَكَلَامُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَارِجٌ عن الْخَلْقِ " .
وقال ابن بطة رحمه الله :
" ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ لِيُضِلَّ بِهِ الضُّعَفَاءَ ،
وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : أَخْبِرُونَا عَنِ الْقُرْآنِ ، هَلْ هُوَ
شَيْءٌ أَوْ لَا شَيْءَ ؟ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ : لَا شَيْءَ ،
فَيُقَالُ لَهُ : هُوَ شَيْءٌ , فَيَظُنُّ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَدْ ظَفَرَ
بِحُجَّتِهِ وَوَصَلَ إِلَى بُغْيَتِهِ ، فَيَقُولُ : فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ
(خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ) ، وَالْقُرْآنُ شَيْءٌ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ ،
وَهُوَ مَخْلُوقٌ ، لِأَنَّ الْـ(كُلَّ) يَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ ؟!
فَيُقَالُ لَهُ : أَمَّا قَوْلُكَ : إِنَّ الْكُلَّ يَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ ، فَقَدْ
رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ ذَلِكَ ، وَأَكْذَبَكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ، وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسٌ لَا
تَدْخُلُ فِي هَذَا الْكَلِّ ، وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ شَيْءٌ ، لَا يَدْخُلُ فِي
الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ ، كَمَا قَالَ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
) " انتهى من " الإبانة الكبرى " (6/170) .
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله :
" وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)
، وَالْقُرْآنُ شَيْءٌ ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ كُلٍّ فَيَكُونُ
مَخْلُوقًا ، فَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ ؛ وَذَلِكَ: أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ
كُلَّهَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا يَخْلُقُهَا
الْعِبَادُ جَمِيعَهَا ، لَا يَخْلُقُهَا اللَّهُ ، فَأَخْرَجُوهَا مِنْ عُمُومِ
كَلٍّ ، وَأَدْخَلُوا كَلَامَ اللَّهِ فِي عُمُومِهَا ، مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ
صِفَاتِهِ ، بِهِ تَكُونُ الْأَشْيَاءُ الْمَخْلُوقَةُ ، إِذْ بِأَمْرِهِ تَكُونُ
الْمَخْلُوقَاتُ ، قَالَ تَعَالَى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، فَفَرَّقَ بَيْنَ
الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ
مَخْلُوقًا بِأَمْرٍ آخَرَ ، وَالْآخَرُ بِآخَرَ ، إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ،
فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَطَرْدُ بَاطِلِهِمْ : أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ تَعَالَى مَخْلُوقَةً ،
كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَذَلِكَ صَرِيحُ الْكُفْرِ ، فَإِنَّ
عِلْمَهُ شَيْءٌ ، وَقُدْرَتَهُ شَيْءٌ ، وَحَيَاتَهُ شَيْءٌ ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ
فِي عُمُومِ كَلٍّ ، فَيَكُونُ مَخْلُوقًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ، تَعَالَى
اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا " انتهى من "شرح الطحاوية" (ص
131-132) .
وقال علماء اللجنة الدائمة :
" القرآن الكريم لا يدخل في قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ؛ لأن
القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته غير مخلوقة ؛ لأن الصفات تتبع الموصوف.
فالله بصفاته - ومنها كلامه - خالق كل شيء ، وما سواه مخلوق ، وكما قال تعالى :
(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ؛ ففرق سبحانه بين الخلق والأمر بالعطف الذي
يقتضي المغايرة بينهما ، والأمر يكون بالكلام ، قال تعالى: ( إِنَّمَا أَمْرُهُ
إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) " انتهى من " فتاوى
اللجنة الدائمة " (3/18-19) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الجواب من وجهين:
الأول : أن القرآن كلام الله تعالى ، وهو صفة من صفات الله ، وصفات الخالق غير
مخلوقة.
الثاني : أن مثل هذا التعبير (كل شيء) : عام ، قد يراد به الخاص ؛ مثل قوله تعالى
عن ملكة سبأ : (وأوتيت من كل شيء) ، وقد خرج شيء كثير لم يدخل في ملكها منه شيء ؛
مثل ملك سليمان" .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (8/366) .
وراجع للاستزادة جواب السؤال رقم : (10153) ، (91306) ، (197537).
والله تعالى أعلم .