عنوان الفتوى : أحوال التعامل مع أصحاب الشبهات وهجرهم
في أحد الأيام كنت أكلم صاحب أبي ـ مدرس رياضيات ـ فقلت له المناهج التي في مصر كلها لا بد أن تتغير، وقلت له تخيل أنهم يكتبون أن الإنسان من مملكة الحيوان، فقال لي ـ والعياذ بالله ـ كلامهم صحيح، فأصل الإنسان قرد، فثرت عليه وقلت له إن سيدنا آدم خلق من طين وطالما أن ديننا قال ذلك، فمهما قال الآخرون فلن نصدقهم، فقال أشياء غريبة، فغيرت الموضوع، فهل علي وزر إن كلمت هذا الشخص رغم أنه مسلم موحد بالله؟ وهل أشركت بهذا؟ وقد سألني عن أشياء فقلت له لا أعرف، وقلت له طالما أن ديننا قال شيئا فليس لنا أن نفكر فهل يجوز تكليم الرجل بهدف نصحه؟ وهل علي وزر في الكلام الذي كلمته به بعد أن نطق بهذا الكلام؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب أن هذه النظرية من أسخف الهراء، وهي من الباطل المحض، وهي مصادمة لآيات صريحة من كتاب الله، وهو قول كفري، لما فيها من تكذيب لما أخبر الله به في كتابه، وقد بينا فساد هذه النظرية في الفتويين رقم: 57722، ورقم: 4755.
ولا إثم عليك فيما تفوه به هذا الشخص من تلك البائقة المنكرة أثناء مناصحتك له، وننصحك بعدم الإغراق في مجادلته إلا مع علم كاف، حتى لا يلقي عليك شبهة تشكك وتفسد عليك عقيدتك، وقد كان أئمة السلف مع سعة علمهم يعرضون عن سماع الشبهات، فقد قال معمر بن راشد في جامعه: كنت عند ابن طاووس وعنده ابن له، إذ أتاه رجل يقال له صالح، يتكلم في القدر، فتكلم بشيء فتنبه، فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أدخل أصابعك في أذنيك واشدد، فلا تسمع من قوله شيئاً، فإن القلب ضعيف. اهـ.
وقال الإمام الذهبي في السير: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة. اهـ.
ولا إشكال في مشروعية الكلام مع مثل هذا الرجل لمناصحته والإنكار عليه، ومن المستحسن أن تحيله على بعض البحوث والمقالات في هذه المسألة، وهي مبثوثة قي مواقع الشبكة العنكبويتة.
وأما حكم هجر هذا الشخص وأمثاله ممن يظهر المقالات المنكرة: فهو على الراجح مرتبط بالمصلحة، فإن خشيت التأثر بمخالطته وجب البعد عنه، وكذلك إن كان هجره يؤدي إلى استقامته ورجوعه للحق، قال ابن تيمية: وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح، وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وللاستزادة في أقوال العلماء في مسألة هجر المبتدع يحسن الرجوع إلى الموسوعة الفقهية الكويتية: 42ـ 172.
والله أعلم.